بينما تحاول أشعة الشمس التسلل إلى زوايا الغرفة من نافذتها التي أصابها الوهن ولم تعد تحمي نفسها حتى تحمي من يمكث خلف أستارها الواهنة وإذا بشيء فيه من القسوة يراود نفسي ويحبس أنفاسها ويجعلها تستيقظ من طول سبات أصداء روحانية تناديني من العمق وكأنها تخاطبني قائلة إياك.. الإذعان إياك.. الإنصات إياك.. الاستسلام أدركت حينها أن نفسي تعيش صراع من العمق صراع تولد من آلام السنين المريرة التي عشتها بجوار عائلتي في ذلك الحي القديم فكأن تلك اللحظات الطفولية التي جاورت فيها أبناء عمومتي قد عادت لي ولكن بلباس جديد، وهندام مغاير عن السابق، أتتني وأنا الآن في كامل وعي الذاتي، والعقلي أتت، وأنا لم أعد ذلك الطفل الذي كان يرى مجتمعه بصورة سيئة رغم المواقف المؤلمة التي لم أدرك أنها كذلك إلا حين أصبحت في هذا السن وفي مرحلة العنفوان والرجولة ...
ليتني بقيت في سباتي العميق قبل أن تسلل خيوط الشمس إلى زوايا الغرفة، انه اختلاف كبير بين مصداقية الماضي، وخداع الحاضر بالأمس، كان قلبي صفحة بيضاء على حد تعبير علماء النفس واليوم أرى هذا القلب أشبه ما يكون بسجل أو صحائف تدون فيها ماسي المجتمع ليقرأها الرعاع من الناس وليتهم يحسنون قرأتها بل يحملونها ما ليس فيها من هذه الماسي ما إن يمتلئ هذا المستودع حتى يبدأ بإفراز البقايا التي أصبحت بائدة لا يستفاد منها، إلى أن تأتي شحنة جديدة من الماسي ولكن بطرق أكثر مرونة وواقعية وأكثر تطورا مجاراة للزمن الذي نعيش تحت ظلاله ...
تنهدات من الماضي وأهات من المستقبل وترقب مما هو آت من لائحة الأقدار أو يعقل أن نوهم أنفسنا بما نحن مقبلون عليه، وبما نحن فاعلون ربما نرى ذلك حقيقة لايمكن الاختباء والتخفي منها، ولكن لنصر على ضمائرنا أن تفيق من سباتها الذي طال، وكأن هذه الضمائر قد توارت مع أصحاب الكهف دون أن تدرك ذلك بالأمس كنت أداعب نسمات الهواء بأصابعي الصغيرة واليوم أرى هذه النسمات اللطيفة قد هاجرت بعيدا لأبقى أنا مختبئا خلف نافذتي التي أصابها الكبر والوهن وتنتظر الكرسي المتحرك لتتوج على عرشه فعجزت حينها عن منع خيوط الشمس من النفاذ إلى أحداق عيناي اللتان لم ينساهما الذبول يوما وأعطا هما ما يستحقانه وكيف ينسى الذبول هذه العيون التي أراقها السهر وأثخنتهما الأيام السائرة بسهام القدر الموجعة فأصابتهما في الصميم ولم يبقى سوى هذا الرمش الرقيق الذي ينتظر أن تداويه نسمات الهواء المهاجرة فإلى مجيئها في يوم من الأيام سأبقي نافذتي مغلقة وسأضل أنا مع النداءات الروحية التي زارتني على حين غفلة نتسامر ونتبادل أطراف الكلام حتى يشرق علينا صبح يوم جديد ...
العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم 
العرض العادي
