لا تُحدّقْ بعينيّ طويلاً يا أبي ،
أخشى أن تسقط في حضرتك قطرةٌ
تُوجب من بعد انسكابها سياط الأسئلة .
لا تُحدّق بعينيّ طويلاً يا أبي ،
أخاف أن تفرّ من عيني دمعةٌ لطالما أوهمتَني أنت ،
بلى ، أنت أوهمتني
أنَّ انسيابها سحقٌ للهيبة وكسرٌ للوقار
أتدري ؟
مات قلب بُنيتكَ يا أبي ولم تبكِ ،
لم أبكِ أبتاه ، أبقيتُ على هيبتي جافة كما شئتَ
أترى ؟
كمْ أنا مُطيعة يا أبي ؟
كم أنا يابسة العينين والرّوح
عنيدة كما تشتهي ؟
كم أنا صلدة قاسية كما تمّنيتَ ؟
وكما ينبغي لينفضّ الدّفء من حولي ،
لا تُحدّق بعينيّ طويلاً يا أبي ،
فلستُ أبكي ،
لا ماء في صدري يستحيل سحاباً كريماً
على أجفاني ، أنا ابنة اليباب يا أبي
أنا الطِّين الذي صيّرتْه وصاياكَ سجّيلاً
أنا السَّيف الذي أفرطتَ في شحذه حَتّى قطع
كلّ كفّ رحمة امتدتْ إليه
الصّحراءُ التي شيّدتَها بصدري لا زالت كما هي
لا لا بل اتسعتْ اتسعتْ حتّى آخر سحب الأُمنيات ،
حتّى آخر الأنهار
الأمطارالتي شرِبتُ منها يوماً في صدور أحبّتي .
لا تُحدّق بعينيّ طويلاً يا أبي ،
ما تراه من ذبولٍ حالك فيهما
ليس بقايا كحل لعين
وليس ظلَّ سهر عملاق تنهاني عنه
أو انعكاس سهاد مستطيل
إنَّها فقط بصمتيّ انكسار أسود
لعتمة الفقد المستريحة
في صدري و في صدر المساء
رغم صلف الضّوء وصخب الضّوضاء
إنَّها حكاية البرد المقيم في زوايا الرّوح
والتّعب المُفترس
الذي يحترث في روحي - مدَّ يبابها - الشّحوب
هي ترنيمة الوحشة الّتي تجوب ليل الخاسرين
وتتلو على أعمارهم بلؤم آية الأفول
فأنا نمتُ ، نمت طويلاً طويلا ،
صدّقني يا أبي ،
نمتُ بما يكفي لئن يجيء ألفُ ليلٌ
ويذهب ألفٌ آخر
دون أنْ أعرف على ذراعِ أيّ ليلٍ رجيم
فقدتُ وعيي
وأضعتُ أشهى العمر
و كلَّ الطَّريق ..!.