كان أبي - رحمه الله - يوقظني كل غداة لأصلي الصبح، يناديني فأجيبه والنوم في عيني أقول:
- حاضر.سأقوم حالاً.
- فيقول: لا تتراخَ. ثب وثباً.
فأتراخى وأتكاسل، ثم أتناوم فلا أردّ، أو أردّ ولا أقوم، حتى يملّ مني فيدعني. وتوفي أبي، وكبرت، وقرأت الكتب وجالست العلماء، وخبرت الدنيا، وجربت الأمور، فلم أجد تجربة أجدى، ولا كلمة أنفع، ولا موعظة أعظم أثراً في المعاش والمعاد، والأفراد والجماعات. من كلمة أبي تلك: "ثب وثباً"، لو أن الله جلّت حكمته مدّ في أجله قليلاً حتى يعوّدني العمل بها، والسير عليها، ولم تخترمه المنية وأناصغير لم أتمرس بعد بحرب الشيطان ولم أستكمل العدة لدفع أذاه، ورد كيده عني، فلبثت في نضال معه إلى اليوم، أغلبه حيناً، ويغلبني، لعنة الله عليه، في أكثرالأحيان.
وأحاسب نفسي، فألقاها قد تنكبت طريقها، وتحولت عن وجهتها، وأنستها الدنيا آخرتها،وصرفتها عن ربها، فأعزم على التوبة، والتحري في المطعم والمشرب، وكفّ البصر وحفظ اللسان، والمحافظة على السنن والنوافل، وهجر رفاق السوء، وصحبة من يذكّر بالله ويدل عليه...
ولكني لا "أثب إلى ذلك"، بل أقبل عليه متراخياً، أرقب به يوماً بعديوم، فتمرُّ الأيام
ولم أحقق توبة وإنما استسلمت للحياة فدار دولابها عليّ وأنا ساكن، يصبح الصباح ويمسي المساء، "والحالة هي هِيَه، والعيشة هي هِيَه"
خسرت هذا كله لأني عصيت أبي، وخالفت عن أمره فلم أثب من الفراش وثباً، وبعت هذهالخيرات بتمددي ساعة تحت اللحاف، فما أعظم المبيع، وما أقل الثمن!
وهذا هومرضنا جميعاً، وعلة عللنا وسبب أدوائنا، وليس تنقص واحداً منا المواعظ والأفكار،ولا يعوزه معرفة طرق الخير، فالمواعظ مبثوثة في كل كتاب، ومترددة على كل لسان
هذه هي علتنا أفراداً وجماعات، مع أن المسلم أبعد الناس عن هذه العلة، وأحقهم بالبرء منها، لأن من مقاصد العبادات في دينه، تعليمه التنظيم والتصميم، لولا ذلك ماجعل الله
للصلاة "وقتاً" إذا تقدمت عنه دقيقة لم تصح الصلاة، وقّت للصوم وقتاً إن نقصت منه دقيقة فسد الصيام، وحدّد للحج وقتاً أن لم يكن فيه بطل الحج.
إن "الوثوب" إلى الخير، والثبات عليه، جماع الفضائل كلها، فإن تعلمناها لم نحتجبعدها إلى شيء.
جعلني الله واياكم ممن يثب للخيرات وثبا
قمت بتلخيصه من مقال للكاتب على الطنطاوي