2. عن ابن عباس قال : فَلَمَّا دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ الْأَقْصَى قَامَ يُصَلِّي فَالْتَفَتَ ثُمَّ الْتَفَتَ فَإِذَا النَّبِيُّونَ أَجْمَعُونَ يُصَلُّونَ مَعَهُ .
ثانياً:
اختلف العلماء هل كانت تلك الصلاة قبل عروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء أم بعد أن هبط منها ، والراجح : الأول .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
قال عياض : يحتمل أن يكون صلَّى بالأنبياء جميعاً في بيت المقدس ، ثم صعد منهم إلى السماوات مَن ذُكر أنه صلى الله عليه وسلم رآه ، ويحتمل أن تكون صلاته بهم بعد
أن هبط من السماء فهبطوا أيضاً ... .
والأظهر : أن صلاته بهم ببيت المقدس كان قبل العروج .
ثالثاً:
يجب على المسلم أن يعتقد أن الحياة البرزخية لا تجري عليها سَنن الحياة الدنيوية ، وإذا كانت حياة الشهداء البرزخية عند ربهم كاملة : فإن حياة الأنبياء أكمل ، لذا فعلى المسلم الإيمان بهذه الحياة دون التعرض لكيفيتها وحقيقتها إلا بنصوص من الوحي المطهَّر .
" قال ابن حجر المكي : وما أفاده من ثبوت حياة الأنبياء حياة بها يتعبدون ويصلون في قبورهم ، مع استغنائهم عن الطعام والشراب كالملائكة : أمرٌ لا مرية فيه ، وقد صنَّف البيهقي جزءًا في ذلك ....
وورد النص في كتاب الله في حق الشهداء أنهم أحياء يرزقون ، وأن الحياة فيهم متعلقة بالجسد : فكيف بالأنبياء والمرسلين " . ..
قال الشيخ الألباني – رحمه الله - :
ثم اعلم أن الحياة التي أثبتها هذا الحديث للأنبياء عليهم الصلاة والسلام إنما هي حياة برزخية ، ليست من حياة الدنيا في شيء ، ولذلك وجب الإيمان بها دون ضرب الأمثال لها ومحاولة تكييفها وتشبيهها بما هو المعروف عندنا في حياة الدنيا .
هذا هو الموقف الذي يجب أن يتخذه المؤمن في هذا الصدد : الإيمان بما جاء في الحديث دون الزيادة عليه بالأقيسة والآراء ، كما يفعل أهل البدع الذين وصل الأمر ببعضهم إلى ادِّعاء أن حياته صلى الله عليه وسلم في قبره حياة حقيقية ! قال : يأكل و يشرب ويجامع نساءه !! وإنما هي حياة برزخية لا يعلم حقيقتها إلا الله سبحانه وتعالى .
رابعاً:
هل كان التقاء النبي صلى الله عليه وسلم بإخوانه الأنبياء بأجسادهم مع أرواحهم ، أم بأرواحهم دون أجسادهم ؟ قولان لأهل العلم .
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
وقد استشكل رؤية الأنبياء في السماوات ، مع أن أجسادهم مستقرة في قبورهم بالأرض ، وأجيب : بأن أرواحهم تشكلت بصور أجسادهم ، أو أحضرت أجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة تشريفاً له وتكريماً .
والراجح : أنه التقى أرواحهم متشكلة بصور أجسادهم ، باستثناء عيسى عليه السلام ، حيث رُفع بروحه وبدنه ، وثمة خلاف في " إدريس " عليه السلام والراجح أنه ملتحق بباقي إخوانه الأنبياء لا بعيسى عليه السلام .
فالأنبياء عليهم السلام أبدانهم في قبورهم ، وأرواحهم في السماء ، فما قدَّره الله تعالى لهم من اللقاء بالنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو بأرواحهم المتشكلة بصورة أجسادهم الحقيقية ، وهو ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية والحافظ ابن رجب وآخرون .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
وأما رؤيته – أي : رؤية موسى عليه السلام - ورؤية غيره من الأنبياء ليلة المعراج في السماء ، لما رأى آدم في السماء الدنيا ، ورأى يحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، أو بالعكس : فهذا رأى أرواحَهم مصوَّرة في صور أبدانهم .
وقد قال بعض الناس : لعله رأى نفس الأجساد المدفونة في القبور ؛ وهذا ليس بشيء .
وقال الحافظ ابن رجب الحنبلي – رحمه الله - :
والذي رآه في السماء من الأنبياء عليهم السلام : إنما هو أرواحهم ، إلا عيسى ، فإنه رفع بجسده إلى السماء .
وهو ترجيح أبي الوفاء بن عقيل ، كما نقله عنه الحافظ ابن حجر ، والظاهر أنه قول الحافظ نفسه ، وقد ردَّ على بعض شيوخه في تبنيهم للقول الآخر ، حيث قال – رحمه الله - .
اختلف في حال الأنبياء عند لقي النبي صلى الله عليه وسلم إياهم ليلة الإسراء : هل أسري بأجسادهم لملاقاة النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة ؟ أو أن أرواحهم مستقرة في الأماكن التي لقيهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأرواحهم مشكَّلة بشكل أجسادهم كما جزم به أبو الوفاء بن عقيل ؟ واختار الأول بعض شيوخنا ، واحتج بما ثبت في مسلم عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( رأيت موسى ليلة أسري بي قائماً يصلِّي في قبره ) فدل على أنه أسري به لما مر به .
قلت : وليس ذلك بلازم ، بل يجوز أن يكون لروحه اتصال بجسده في الأرض ، فلذلك يتمكن من الصلاة ، وروحه مستقرة في السماء .
.
وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه ليس باستطاعة بدن موسى عليه السلام ولا غيره أن ينتقل من مكان لآخر ، بل هذه حال الروح ، فلذا عندما رأى النبي صلى الله عليه وسلم موسى عليه السلام يصلِّي في قبره ، ثم رآه في بيت المقدس ، ثم في السماء السادسة : فليس ذلك الانتقال إلا لروحه عليه السلام دون بدنه .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله - :
ومعلوم أن أبدان الأنبياء في القبور ، إلا عيسى وإدريس ، وإذا كان موسى قائماً يصلِّي في قبره ثم رآه في السماء السادسة مع قرب الزمان : فهذا أمر لا يحصل للجسد .
قال الشيخ صالح آل الشيخ – حفظه الله - :
والأظهر من القولين عندي : أنَّ ذلك كان بالأرواح دون الأجساد ، خلا عيسى عليه السلام ؛ وذلك أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم حين التقى بالأنبياء وصلُّوا معه صلى الله عليه وسلم :
- إما أن يُقال : صَلَّوا معه بأجسادهم ، وقد جُمِعَت أجسادهم له من القبور ، ثم رَجعت إلى القبور وبقيت أرواحُهم في السماء .
- وإما أن يُقال : هي بالأرواح فقط ؛ لأنَّهُ لقيهم في السماء .
ومعلوم أنَّ الرّفع إنما خُصَّ به عيسى عليه السلام إلى السماء رَفْعاً حيّاً ، وكونهم يُرْفَعُون بأجسادهم وأرواحهم إلى السماء دائماً ولا وجود لهم في القبور : هذا لا دليل عليه ، بل يخالف أدلة كثيرة : أنَّ الأنبياء في قبورهم إلى قيام الساعة .
فمعنى كونهم ماتوا ودُفنوا : أنَّ أجسادهم في الأرض ، وهذا هو الأصل .
ومن قال بخلافه قال : هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم أنه بُعِثَتْ له الأنبياء فَصَلَّى بهم ولقيهم في السماء .
وهذه الخصوصية لابدَّ لها من دليل واضح ، وكما ذكرتُ فالدليل التأمُّلي يعارضه .
وعلى كلٍّ : هما قولان لأهل العلم من المتقدمين والمتأخرين .