بعد تكرار الحديث عن شخصية الرسول الكريم ورسالته، من أزمة الرسوم الكرتونية الدنماركية الى هذه اللحظة، نرى في السياق التالي طرفا من شمائل وشخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
قدر الأنبياء والرسل أن يبقوا دائما في جهاد ودعوة مستمرة ظاهرا وباطنا، أحياء وأمواتا، أجسادا وأرواحا، وذلك لأن النبوة والرسالة كانت وما زالت هي المنفذ الوحيد الذي يصل عالم الغيب بالشهادة ويميز أهل السعادة عن أهل الشقاء، ويفصل الفضيلة عن الرذيلة، ويقيم العدل المطلق ضد الظلم الفاحش ويزرع أمل البقاء والاستمرارية في حياة البشرية جمعاء.
إن النبوة والرسالة محور الوجود الإنساني قاطبة والحامية له من الفساد والهلاك الآني والمستقبلي الأبدي على الإطلاق، كما أنها الواسطة الواصلة بين العبد وربه، بالتبليغ والتزكية والتربية وصيانة العقيدة التي يقوم عليها الوجود كله «وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون، فلنسألن الذي أرسل إليهم ولنسألن المرسلين». «وإن من أمة إلا خلا فيها نذير» ولهذا فكان من الواجب على كل البشرية أن تعترف للرسل بالدور القدسي الذي تقوم به، وبوظيفة التزكية والتطهير التي تهدف منها لأن ترفع من مصاف البهيمية والشيطانية إلى مقامات الإنسانية المكرمة ذات المسحة الملائكية النورانية وذات الأبعاد المعرفية والسلوكية المتسامية...
أولا : الكمال والجمال في أخلاق وخلقة سيدنا محمد عليه السلام: ونبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم هي الأعظم ثبوتا وحضورا بالتحدي المعجز لسائر البشرية عبر القرون بواسطة القرآن الكريم وبالأخبار المتوارثة والمشهورة الدالة على سيرته وحضوره الفعلي في التاريخ البشري دعوة وعقيدة وتشريعا وسلوكا. فإثبات نبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ثبتت بمعجزته ونصها وبمعجزة والنصوص التي جاء بها الرسل من قبله. والذين بشروا به وحملوا أتباعهم مسؤولية تبليغ هذه البشارة إلى من بعدهم تابعا عن تابع، «فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به». ومن هنا فقد عرف العالم قبيل بعثته صلى الله عليه وسلم تحركات مكثفة وسياحات استطلاعية من طرف اليهود والنصارى لترقب ظهور هذا النبي المبشر به كخاتم للرسل والأنبياء، وهذا ما تثبته الوثائق التاريخية والأحداث المتلاحقة التي واكبت ظهور النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. كما أنه كان منصوصا عليه في التوراة والإنجيل بالحرف قبل التحريف، ستكشف فيما بعد بعض النسخ المخبأة الدالة على هذه البشارة.
كما توصل إليه بعض الباحثين في تاريخ الأديان وغيرهم وخاصة إنجيل ِبِرنابا. وهذا ما يحتم على العلماء الباحثين بموضوعية لأن يكثفوا جهودهم للبحث عن مزيد من الوثائق والمعلومات التي أخفاها وحرفها الرهبان والحاخامات تعنتا وحسدا بعدما ظهرت نبوة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم مطابقة تماما لنعته وصفاته، الواردة في التوراة والإنجيل، والتي نص عليها القرآن نفسه ولم يستطيعوا إنكارها في حينه كقول الله تعالى على لسان سيدنا عيسى عليه السلام «ومبشرا برسول يأتي من بعدي إسمه أحمد».
فكان من بين ما ورد من أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في التوراة هو أنه «لا يزيده سفه السفيه إلا حلما» وهذه الصفة ستكون السبب في إسلام بعض اليهود واعترافهم برسالته بعدما اختبروه بها فوجدوه ملتزما بها مطابقة، وهذا ما نجده في كتب السيرة المؤرخة لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وكتب الحديث الصحيح.
أذكر نموذجا واحدا مناسبا لصفته الحلمية هذه رواية عن أنس قال: كنت مع النبي عليه الصلاة والسلام وعليه برد غليظ الحاشية فجذبه أعرابي بردائه جدبة شديدة حتى أثرت حاشية البرد في صفحة عنقه ثم قال: يا محمد إحمل لي على بعيري هذين من مال الله الذي عندك، فإنك لا تحمل لي من مالك ولا من مال أبيك، فسكت النبي ثم قال: المال مال الله، وأنا عبده، ثم قال: ويقاد منك يا أعرابي ما فعلت بي. قال: لا. قال: لم ؟ قال: لأنك لا تكافئ بالسيئة السيئة. فضحك عليه الصلاة والسلام، ثم أمر أن يحمل له على بعير شعير، وعلى الآخر ثمر. قالت عائشة: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصرا مني مظلمة ظلمها قط، ما لم تكن حرمة من محارم الله تعالى، وما ضرب بيده شيئا قط إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما ضرب خادما ولا امرأة...».
فمواطن العفو والرحمة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم. لا تعد ولا تحصى. من أبرزها الأحداث الكبيرة التي سجلها التاريخ بالتواتر كما في فتح مكة واعتراف أهلها بفضله وكرمه وجوده ورحمته رغم شراسة عداوتهم له وإيدائهم إياه من قبل. حيث قال لهم بعد دخوله مكة سلما وبدون حرب: يا معشر قريش ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا: خيرا. أخ كريم وابن أخ كريم، فقال عليه الصلاة والسلام: اذهبوا فانتم الطلقاء. كما أذكر بهذه المناسبة نموذجا من بعض تبعات فتح مكة وهروب البعض ممن كان يتزعم الإذاية ويحرض عليها وكيف أن حلمه صلى الله عليه وسلم سيكون هو مطاردهم وليس الانتقام أو السعي للإذلال وياله من خلق تذوب وتنحني له الرؤوس من إنس وجن وحيوان وجماد وأملاك وأفلاك.
يروى أن صفوان بن أمية قد اختفى وأراد أن يذهب ويلقي بنفسه في البحر فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبي الله إن صفوان سيد قومه، هرب ليقذف نفسه في البحر، فأمنه، فانك قد أمنت الأحمر والأسود، فقال عليه الصلاة والسلام: ادرك ابن عمك فهو آمن، فقال: أعطني علامة، فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان، قال له: فداك أبي وأمي. جئتك من عند أفضل الناس وأبر الناس وأحلم الناس وخير الناس، وهو ابن عمك عزه عزك وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخاف على نفسي، قال: هو أحلم من ذلك وأكرم. وأراه العمامة علامة الأمان. فرجع إلى رسول الله، وقال له: هذا يزعم أنك أمنتني؟ قال: صدق. قال: أمهلني بالخيار فيه شهرين، قال: أنت بالخيار فيه أربعة أشهر، ثم أسلم رضي الله عليه وحسن إسلامه. فإذا كانت هذه معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم لأعدائه عند الحرب وسابق إيذاء فكيف بها في السلم وعند حسن الابتداء وأما نظافة جسمه وطيب ريحه وعرقه ونزاهته عن الأقذار وعورات الجسد، فكان خصه الله تعالى في ذلك بخصائص لم توجد في غيره ثم تممها بنظافة الشرع. يقول البوصيري:
خلقت مبرءا من كل عـيب كأنك يا رسول الله خلقت كما تشاء فهو الذي تم معناه وصورته ثم اصطفـاه حبـيبا بـارئ النسم منزه عن شريك في محاسنه فجوهر الحسـنى فيه غير منقسم أما الجراءة على الرسل والأنبياء بين التحريف والتخريف فيقول الله تعالى «ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزؤون» (سورة الأنعام آية11).
إن الجراءة أو الإساءة إلى الأنبياء والرسل عليهم السلام قد تتراوح ما بين الإنكار المطلق وعدم الاعتراف أصلا وهذا شأن الملحدين. والدهريين وما بين الاعتراف والتحريف والاساءة بالأهواء والتخريف وهذا هو الغالب على الزاعمين من اليهود والنصارى في حق أنبياء بني إسرائيل وخاصة سيدنا موسى وسيدنا عيسى عليهما السلام. بنسبة التوراة إلى الأول والإنجيل إلى الثاني. وتحريف كليهما من طرف الفريقين. وبالتالي فتح المجال من طرف الملحدين واللادينيين للتجرؤ على الدين والأنبياء والرسل والتطاول حتى على مقام الألوهية بالانكار والسخرية. وهذا هو الذي وقع في الغرب خاصة بسبب تصرفات اليهود والنصارى وانقساماتهم العقدية السخيفة وتناقضاتهم التشريعية التي لا تولد سوى الاضطراب والريبة والإنكار. بحيث كما يقول ابن حزم الأندلسي: «وقد كنا نعجب من إطباق النصارى على تلك الأقوال الفاسدة المتناقضة التي لا يخفى فسادها على أحد به رمق إلى أن وقفنا على ما بأيدي اليهود فرأينا سبيلهم وسبيل النصارى واحدة كشف الأبلمة الخوصة لأنها تأخذ فتشق طولا على السواء». فالامتدادات التاريخية في الإساءة للأنبياء والرسل عليهم السلام معلومة بالنصوص القرآنية التي تؤكد وجود الإذاية المستمرة لهم أو تحريف سيرتهم وسلوكهم لحد قتلهم وتعذيبهم. كما أن هذا التحريف والتشويه ما زال مسطرا في كتب اليهود والنصارى مع تسليهم بأنه يدخل في حكم الكتاب المقدس لديهم. هذا مع اتهام بعض اليهود للتوراة السامرية بأنها محرفة واتهام الآخرين بأن التوراة التي بايديهم محرفة، بينما كلا التوراتين محرفتين بالأدلة العقدية. والأخلاقية نظرا للتناقضات والفضائح التي تضمنتها نصوصها، فيما يذكره الباحثون في تاريخ الأديان بحيث قد يوجد فيها افتراءات على الأنبياء والرسل مما تقشعر منه الجلود وتنهد له الجبال، قد نستحي ذكره في هذا المقام، وهو موجود في التوراة التي عند ربانيهم وعنانيهم وعيسويهم حيث كانوا في مشارق الأرض ومغاربها، كدعاء التوراة في زعمهم وتحريفهم أن أولاد الله (تعالى عن ذلك) اتخذوا نساء وفيه نص يقول فيما نقله عنهم ابن حزم الأندلسي «فلما ابتدأ الناس يكثرون على ظهر الأرض وولد لهم البنات، فلما رأى أولاد الله بنات آدم أنهن حسان اتخذوا منهن نساء». وليس وراء هذا الكلام أشنع وأفضع، حينما ينسب إلى الله تعالى الأولاد وحين تباح الأعراض من طرفهم شهوة، بمعنى أن هذا فساد في العقيدة وفساد في السلوك، وهو ما يميز مبادئ الصهيونية والماسونية والفكر الغربي وسلوكه الاجتماعي بصفة عامة في عصرنا الحالي. و أيضا قد يذهبون في قصة يعقوب، أنه صارع الله (تعالى عن ذلك وعن كل شبهة لخلقه)، حيث قالوا: إن الله عز وجل عجز عن أن يصرع يعقوب بنص كلام توراتهم وحقق ذلك قولهم عن الله تعالى أنه قال له : «كنت قويا على الله فكيف على الناس ؟». ويقول عباس محمود العقاد عن اليهود في هذا المجال: «وظلوا إلى ما بعد أيام موسى عليه السلام ينسبون إلى الإله أعمال الإنسان وحركاته، فذكروا أنه كان يتمشى في الجنة وأنه كان يصارع ويأكل ويشرب ويغشى مركبات الجبال، وأنه دفن موسى حين مات في مرآب». فهل بعد هذا الفساد في التحريف والتبديل والاعتقاد فساد؟
العرض المتطور
