مرة، كنت أستمع لأحد المعارضين المصرييين وهو يصرخ محتّداً ينتقد الاقتصاد المصريّ قائلاً : الاقتصاد بتاعنا عامل زي "...." ال********************ة، كل ما تيجي ترفعه ينزل.
ولك أن تتخيل عزيزي القارئ ما بين النقاط.
الحال في بلداننا العربية أصبح مدعاة للسخرية، أما في الخليج فهو أكثر، ففي الوقت الذي تدعي فيه دول مجلس التعاون، وهذا إشارة إلى الدول التي امتنعت تماما عن أيّ مقاومة لأي تدخل غربي في شؤونها، وانتمائها سياسيا للتبعية الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية. دول مجلس التعاون تدعي أنها اتبعت هذا الطريق من أجل الانشغال بتنمية شعوبها وبناها التحتية، حتى تستطيع خلق مجتمع يواكب ركب التطوّر والتقدم العالمي.
اليوم، وبعد 40 أو 50 أو 60 عاما، في اقتراب ميلاد مجلس التعاون الـ 30، تجد أن الأموال كثرت، وأن الشعوب الخليجية أحد أكثر شعوب العلم رفاهية وجهلا.. وأحد أكثر شعوب العالم استهتارا بالعلم والتنمية، وأنها شعوبا ما زالت تؤمن بالقبيلة والخيمة وشاعر البيرق.. وأنها شعوبا لا زالت تمرّر أمورها بالمحسوبية والواسطة.. فأي تقدّم هذا الذي نتحدث عنه وقد غاب العِلم..؟ وأيّ دوَلٍ هذه التي قامت وقرارها رهن دوَل أخرى؟ وأي تنمية تُذكر ونحن نعد أحد أكثر الشعوب استيرادا للمستلزمات المعيشية من مأكل ومشرب.
وحين تأتي لتتحدث عن الدول الكبرى، أين كانت وأين وصلت، وماذا فعلت وماذا تجنبت، وماذا تعني التقدم والتكلنوجيا لديهم وإلى أين أوصلتهم، وكيف ساهم نظامهم السياسي وشفافيتهم الاقتصادية في تطوير الاقتصاد ومنفعة العباد وتنمية فوضع العلم والتقدّم والتطوّر في خانة "باب يجيلك منّه ريح، سدّه واستريح"، وتمّ تجاهل أنا الحياة، لا تعترف إلا بمن يقف على رجليه، لا على "عكّازات" الأمم الأخرى، ولا يستمر فيها إلى من سبق وزمانه لا من ينام في سبات عميق مع أمجاد قبيلته وعشيرته!!!
ولكنك، وحينما تلتفت يمنة ويسرة، تجد دولاً كـ "ماليزيا" و "تركيا" و "سنغافورة" و "إيران" فعلت ما استطاعت من خلاله الوصول إلى الصفوف الأولى للدول المتقدمة، دون أن يكونوا من أصحاب النفط، ولا من أهل العشائر والقبائل، وهي دول تحسّب على أنها مسلمة، وحتى لا يُقال أن تركيا "علمانية" وسنغافورة ذات أغلبية "لا مسلمة" وأن "إيران" فارسية ذات أطماع قديمة / جديدة ، سأكتفي بـ ماليزيا. خاصة وأن عمرها مقارب تماما لعمر دول الخليج، وأنها كانت مستعمرة من قبل دولة استعمرت أيضا في الخليج، وأنهم مسلمون ومتعددو المذاهب كأي دولة عربية مسلمة أخرى، بل والأدهى من ذلك، أنها تضم بين جنبات حدودها شعب يعتنق 18 عشر ديانة، وينتمي أغلبه لـ ثلالة أعراق متنافرة، وهي : المالايو والهان والهندوس. وحين قدَم السيّد مهاتير محمد إلى سدة الحكم عام 1981، كانت ماليزيا عبارة عن دولة صناعية، ونسبة 52% من المواطنين يعيشون تحت خط الفقر، والبطالة عالية، ودخل الفرد السنويّ لا يتجاوز 1247 دولارا، ورغم ذلك، لم يتعلل بهذه الظروف القاهرة، وصمّم على خط سير معيّن على أن لا يحيد عنه أبدا، فماذا كانت النتيجة؟
في عام 2003 فاجأ السيّد مهاتير العالم بأجمعه بتخليه عن سدة الحكم، ولكن هل ترك الحكم بائسا ومهزوما ومحتارا؟ هل خذل شعبه وناسه؟ هل فضّل عرقا من الشعب على باقي الأعراق؟؟ بالطبع لا، بل كانت حصيلة الـ 22 عاما التي قضاها مهاتير محمد في الحكم التالي:
- انخفاض نسبة الفقر للشعب من معدّل 52% إلى 5%.
- ارتفاع دخل الفرد من 1247 إلى 8862.
- انخفاض نسبة البطالة إلى 3%.
- والأمر الأكثر أهمية والذي شكّل دهشة للعالم، هو : تحولت ماليزيا في فترة رئاسته، من دولة زراعية تعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية إلى دولة صناعية متقدمة يساهم قطاعي الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلي الاجمالي، وتبلغ نسبة صادرات السلع المصنعة 85% من اجمالي الصادرات، وتنتج 80% من السيارات التي تسير في الشوارع الماليزية.
- تصنيف جامعاتها أحد أهم 200 جامعة عالميا.
وبعد 22 عاما، هل تعنّت مهاتير؟ هل قام فوق الشعب وقال: أنا من صنعتكم وأنا من قدمتكم؟ هل قال: لولاي لما كنتم؟ هل وزّع الأراض والأملاك وغيرها على أبنائه وبناته؟ هل حرص على ذكر اسمه في النشيد الوطنيّ؟ هل قام بطباعة صوره على كل المناهج والجرائد الماليزية؟ الإجابة كلمة واحدة: لا. كل ما قام به، أنه فاجأ العالم باستقالته، لم يرغمه أحد، لا قوى المعارضة الماليزية، ولا الجيش الماليزي، ولا الأوامر الملكيّة. فقط استقال لأنه وصل إلى مرحلة استوفى فيها ما وعد، واطمأن لسلامة الطريق الذي صنعه وعبّده وكوّنه. فهل هناك من لديه شك؟؟؟
22 عاما فترة ليست كثيرة إذا ما قارنّها بعمر دولة من دول الخليج، ولكنها بالتأكيد سنوات عظيمة بالإنجازات، ولم يتخلّ فيها مهاتير عن شبر من أراضي ماليزيا، ولم يتهاون في تغيير مفاهيم الدين، ولم يُضيّع هويّة بلاده وشعبه، ولم يعمل على تنسية شعبه عاداتهم وتقاليدهم، ولم ينهاهم عن تداول لغتهم الأم، ولم يفرّق بين الأخ وأخيه بحجة دمج الشعب في مزيج واحد،ولم يقهر أحدا.. ولم يقتل أحدا.. ولم يملأ الزنازين السجون بمعارضيه.. ولم يجمع أفخر السيارات وأفخمها في قصره، ولم يهتم بامتلاك القصور والخدم والحشم واليخوت والطائرات، ولم يضع يده في يد الدولة الإسرائيلية، ولا زال إلى اليوم يطالب المجتمع الدوليّ بمحاكمتهم، ولم يطلب الدعاء له في خطبة صلاة الجمعة، ولم تكن له تسريحة خاصة، ولا تشكيلة "لحية" معينة، ولا خواتم ذات أحجار كريمة باهظة، فما أجمله من فرق، بين زعيم عاش ليغيّر من أجل أن يرتقي سلّم المجد والرفعة باسم شعبه لا على حساب شعبه، وما أجمل من قضى عمره خادما لأهله وناسه وعشيرته دون تمييز بينهم، عن الذي قضاه في التملّك والسيطرة وتقريب القبيلة الفلانية وإقصاء تلك.
في تجربة مهاتير محمد مع ماليزيا، أوجه كثيرة للعظمة بإمكان أي زعيم عربي أن يأخذ منها ويتعلّم. فما عذركم يا سلاطين وملوك العرب؟؟؟؟؟