عادت الأقلام المُقيَّدة من سِجنها بعد غيابٍ طويل ، واستيقظت من نومها بعد سُباتٍ عميق ،
باحثة عن جُزيئات حروفٍ تحوَّلت بفعل صدمة الفراق إلى فتاتٍ منثور قد اندثر مُعظمه في
التراب حتى غاب أثره قبل أن تكتمل ؛ فتعطَّشت رؤوس الأقلام لينبوع الحروف ، واشتاقت
الأنامل الحاضنة لها إلى سيل الكلم الممزوج من عذب الحروف ، فما على الحبر المُتدفِّق
المسكين إلاّ أن يجُف رُغمًا عنه في لحظات قحط الأقلام العصيبة .
وظلَّت الأقلامُ هكذا حتى ازدادت ظمأً ، فبحثت في الصفحات وفتَّشت في كُلِّ بُقعةٍ علًّها تجد فيها
حرفًا واحدًا فترتوي منه ، إلاّ أنَّ الحرف قد ملَّ وعاد مُطَأطَأ الرأس وخاب أمله في الاجتماع
بالقلم العطشان ، فَتصَوَّر لي ذلك اجتماع قُطبين متماثلين وما يحدث لهما من تنافرٍ عجيب !
ليبقى القلمُ أثناء التنافر وحيدًا صامدًا فريدًا ، لا يذوق طعم الراحة التي يجدها حينما تتكون
الكلمات من الحرف ، ولا حلاوة المعنى التي يجدها حينما تكتمل الكلمات وتُكوِّن أسطرًا تُشِعُّ
أنوارًا بازغةً تتلألأ حينها في سماء ساحات المقالة فتملأها من أشعتها الذهبية التي تلتهب كما
تلتهب الشمس الساطعة في وَضحِ النَّهارِ .
هكذا الأقلامُ في عهدها السابق .. ثروة ذهبية ، وكنوز عِلم لا تفنى أبدًا ، أفكار مُتجدِّدة وعطاءٌ
يتجدَّد ؛ إنَّها أقلام تعرف ضالَّتَهَا من الطريق قد أسهمت وأبدعت على ضفاف ساحة المقالة
وملأتها بحبرها المُتدفِّق في وقت انفتحت فيه كُلُّ القرائح ، وانطلقت فيه كُلُّ الأنامل ،
واجتمعت فيه أقلامٌ وحروفٌ تعاهدت على عُنوانِ التميُّزِ والإبداعِ ، فاندمجوا مع بعضهم البعض
وسال الحبر من الأقلام وتكوَّنت الكلمات من الحروف ، فصُقِلَت وكوَّنت أَدَب الفصاحةِ العربي
الذي لا يخلو منه أيُّ كتاب .
وبعد ذلك العهد الذَّهبي الشامخ ظلَّت الحروف مسارها وابتعدت عن دربها ، وانحرف حبر القلم
عن مجراه وباتَ كلٌّ منهما في طريقٍ مَجهول ، فبالأمسِ بحثت الحروف عن القلم ، واليوم
يبحث القلم عن الحروف ، ولم يجد كلٌّ منهما الآخر أبدًا إلاّ أنهما التقيا في مُرورٍ سريعٍ ، قد
شُلَّت بعده الأنامل الذهبية ، وانكسر حينه رأس القلم لِغياب نصفه الآخر !
ومعظم حروف اللُّغة أُصيبت بالفتور ولكنها ابتُليت بالكبرياء ، فهي بأمَسِّ الحاجة للقلم ولكنها
تأبى أن تقع في قبضته خِشيَة أن يصقلها بين الفينة والأخرى ؛ ولكنها بهذا التصرف أَوْدَت
بالأقلام إلى مقابرها ، وغسَّلتها ودفنتها وهي على قَيد الحياة ، فأخذت الأقلام حينها آخر نَفَس
لها قبل أن تموت فاختنقت !
حقًّا إنَّ غُرورَ الحروفِ مقبرةٌ للأقلامِ !
إنَّها دعوةٌ للحروف الضائعة علَّها تسمع نداء الأقلام فتعود من جديد