رابط الموضوع السابق
http://www.b3b7.com/vb/showthread.php?t=39264
الفصل الخامس
في بيانِ مفاهيمَ خاطئةٍ في تحديد العبادة
العبادات توقيفية : بمعنى : أنه لا يشرع شيء منها إلا بدليل من الكتاب والسنة ، وما لم يشرع يعتبر بدعة مردودة ، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : من عمل عملًا ليس عليه أمرنا فهو رد أي مردود عليه عمله ، لا يقبل منه ، بل يأثم عليه ؛ لأنه معصية وليس طاعة ، ثم إن المنهج السليم في أداء العبادات المشروعة هو : الاعتدال بين التساهل والتكاسل ؛ وبين التشدد والغلو . قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا .
فهذه الآية الكريمة فيها رسم لخطة المنهج السليم في فعل العبادات ، وذلك بالاستقامة في فعلها على الطريق المعتدل ؛ الذي ليس فيه إفراط ولا تفريط ؛ حسب الشرع ( كما أمرت ) ثم أكد ذلك بقوله : ( ولا تطغوا ) والطغيان : مجاوزة الحد بالتشدد والتنطع ، وهو الغلو . ولما علم - صلى الله عليه وسلم - بأن ثلاثة من أصحابه تقالوا في أعمالهم ، حيث قال أحدهم : أنا أصوم ولا أفطر ، وقال الآخر : أنا أصلي ولا أرقد ، وقال الثالث : أنا لا أتزوج النساء . قال - صلى الله عليه وسلم - : أما أنا فأصوم وأفطر وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سُنَّتي فليس مني .
وهناك الآن فئتان من الناس على طرفي نقيض في أمر العبادة .
الفئة الأولى : قصَّرت في مفهوم العبادة وتساهلت في أدائها حتى عطلت كثيرًا من أنواعها ، وقصرتها على أعمال محدودة ، وشعائر قليلة تؤدى في المسجد فقط ، ولا مجال للعبادة في البيت ، ولا في المكتب ، ولا في المتجر ، ولا في الشارع ، ولا في المعاملات ، ولا في السياسة ، ولا الحكم في المنازعات ، ولا غير ذلك من شئون الحياة .
نعم للمسجد فضلٌ ، ويجب أن تؤدى فيه الصلوات الخمس ، ولكن العبادة تشمل كل حياة المسلم ؛ داخل المسجد وخارجه .
الفئة الثانية : تشددت في تطبيق العبادات إلى حد التطرف ، فرفعت المستحبات إلى مرتبة الواجبات ، وحرَّمت بعض المباحات ، وحكمت بالتضليل أو التخطئة على من خالف منهجها ، وخطَّأ مفاهيمها . وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها .
الفصل السادس
في بيان ركائز العبودية الصحيحة
إن العبادة ترتكز على ثلاث ركائز هي : الحبُّ والخوفُ والرجاء .
فالحب مع الذّل ، والخوف مع الرجاء ، لا بد في العبادة من اجتماع هذه الأمور ، قال تعالى في وصف عباده المؤمنين : يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ، وقال تعالى : وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ .
وقال في وصف رُسُله وأنبيائه : إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ .
وقال بعض السلف : من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن مُوحِّد . ذكر هذا شيخُ الإسلام في رسالة ( العبودية ) وقال أيضًا : ( فدين الله : عبادته وطاعته والخضوع له ، والعبادة أصل معناها : الذل . يقال : طريقٌ مُعبَّدٌ ، إذا كان مُذللًا قد وطئته الأقدام . لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ، ومعنى الحب ، فهي تتضمن غاية الذل لله تعالى ، بغاية الحب له ، ومن خضَعَ لإنسان مع بغضه له لا يكون عابدًا له ، ولو أحبّ شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له ، كما يُحبُّ الرجل ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله تعالى ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله أعظم عنده من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والخضوع التام إلا الله ... ) انتهى .
هذه ركائز العبودية التي تدور عليها ، قال العلامة ابن القيم في النونية :
وعبــادةُ الرحــمن غايــةُ حُبِّـه مــع ذُلِّ عــابده هُمــا قطبـان
وعليهمــا فَلــكُ العبــادة دائــرٌ مـا دار حـتى قـامتِ القُطبـان
ومَـــدارهُ بــالأمر أمــرِ رَســوله لا بالهوى والنفسِ والشيطانِ
شبَّه - رحمَهُ الله - دورانَ العبادة على المحبة والذل للمحبوب ، وهو الله جل وعلا ؛ بدوران الفلك على قطبيه ، وذكر أن دوران فلك العبادة بأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما شرعه ، لا بالهوى ، وما تأمر به النفس والشيطان فليس ذلك من العبادة . فما شرعه الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الذي يدير فلك العبادة ، ولا تُديره البدع والخرافات والأهواء وتقليد الآباء .