قَالَ قَتَادَةُ
" يَقُوْلُ تَعَالَىْ
مَنْ كَانَتْ الْدُّنْيَا هَمَّهُ وَطَلَبَتِهِ وَنِيَّتُهُ جَازَاهُ الْلَّهِ بِحَسَنَاتِهِ
فِيْ الْدُّنْيَا ، ثُمَّ يُفْضِيَ إِلَىَ الْآَخِرَةِ وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةً يُعْطَىَ بِهَا جَزَاءُ
وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُجَازَى بِحَسَنَاتِهِ فِيْ الْدُّنْيَا ،
وَيُثَابُ عَلَيْهَا فِيْ الْآَخِرَةِ " .
قَالَ الْشَّيْخُ مُحَمَّدٌ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ الْلَّهُ
" ذِكْرِ عَنْ الْسَّلَفِ فِيْ مَعْنَىً الْآَيَةِ أَنْوَاعِ مِمَّا يَفْعَلُهُ
الْنَّاسِ الْيَوْمَ وَلَا يَعْرِفُوْنَ مَعْنَاهُ
فَمَنْ ذَلِكَ : الْعَمَلُ الْصَّالِحُ الَّذِيْ يَفْعَلُهُ كَثِيْرٌ مِنْ الْنَّاسِ ابْتِغَاءً
وَجْهُ الْلَّهِ مِنَ صَدَقَةٌ وَصَلَاةِ وَصِلَةِ
وَإِحْسَانِ إِلَىَ الْنَّاسِ وَتَرْكِ ظَلَمَ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يَفْعَلُهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَتْرُكُهُ
خَالِصَا لِلَّهِ ، لَكِنَّهُ لَا يُرِيْدُ
ثَوَابُهُ فِيْ الْآَخِرَةِ ، إِنَّمَا يُرِيْدُ أَنْ يُجَازِيَهُ الْلَّهِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَتَنْمِيَتِهِ
أَوْ حِفْظُ أَهْلِهِ وَعِيَالِهِ أَوْ إِدَامَةِ
الْنَّعْمَةِ عَلَيْهِمْ ، وَلَا هِمَّةٍ لَهُ فِيْ طَلَبِ الْجَنَّةِ وَالْهَرَبُ مِنَ الْنَّارِ
فَهَذَا يُعْطَىَ ثَوَابَ عَمَلِهِ فِيْ الْدُّنْيَا
وَلَيْسَ لَهُ فِيْ الْآَخِرَةِ نَصِيْبٌ وَهَذَا الْنَّوْعُ ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ .
الْنَّوْعُ الْثَّانِيْ
وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْأَوَّلِ وَأَخْوَفُ ، وَهُوَ الَّذِيْ ذَكَرَهُ
مُجَاهِدٌ فِيْ الْآَيَةِ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِيْهِ ،
وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ أَعْمَالا صَالِحَةُ وَنِيَّتُهُ رِيَاءً
الْنَّاسِ لَا طَلَبُ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ .
الْنَّوْعُ الْثَّالِثُ
أَنْ يَعْمَلَ أَعْمَالا صَالِحَةُ يَقْصُدُ بِهَا مَالا مِثْلَ أَنْ يَحُجَّ لْمَالِ
يَأْخُذُهُ ، أَوْ يُهَاجِرْ لِدُّنْيَا يُصِيْبُهَا ، أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا ، أَوْ يُجَاهِدَ لِأَجْلِ
الْمَغْنَمِ ، فَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْنَّوْعِ أَيْضا فِيْ تَفْسِيْرِ الْآَيَةِ
وَكَمَا يَتَعَلَّمَ الْرَّجُلُ لِأَجْلِ مَدْرَسَةِ أَهْلُ أَوْ مَكْسَبِهِمْ أَوْ
رِئَاسَتَهُمْ ، أَوْ يَتَعَلَّمُ الْقُرْآَنَ وَيُوَاظِبُ عَلَىَ
الصَّلَاةِ لِأَجْلِ وَظِيْفَةِ الْمَسْجِدَ كَمَا هُوَ وَاقِعُ كَثِيْرا
الْنَّوْعُ الْرَّابِعُ
أَنَّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ الْلَّهِ مُخْلِصِا فِيْ ذَلِكَ لِلَّهِ وَحْدَهُ لَا
شَرِيْكَ لَهُ ، لَكِنَّهُ عَلَىَ عَمَلٍ يُكَفِّرُهُ كُفْرَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِسْلَامِ
مِثْلُ الْيَهُوْدِ وَالْنَّصَارَىَ إِذَا عَّبَدُوْا الْلَّهَ أَوْ تُصَدِّقُوْا أَوْ صَامُوَا ابْتِغَاءَ
وَجْهَ الْلَّهِ وَالْدَّارَ الْآَخِرَةَ ، وَمَثَلُ كَثِيْرُ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّذِيْنَ فِيْهِمْ كَفَرَ
أَوْ شِرْكِ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الْإِسْلَامِ بِالْكُلِّيَّةِ ، إِذَا أَطَاعُوْا الْلَّهَ طَاعَةً خَالِصَةً
يُرِيْدُوْنَ بِهَا ثَوَابُ الْلَّهِ فِيْ الْدَّارِ الْآَخِرَةِ ، لَكِنَّهُمْ عَلَىَ أَعْمَالِ
تُخْرِجَهُمْ مِنَ الْإِسْلَامِ ، وَتَمْنَعُ قَبُوْلَ أَعْمَالَهُمْ ، فَهَذَا الْنَّوْعُ أَيَضَا قَدْ
ذَكَرْ فِيْ هَذِهِ الْآَيَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ
مَالِكِ وَغَيْرِهِ
وَكَانَ الْسَّلَفُ يَخَافُوْنَ مِنْهَا
" انْتَهَىَ مَا ذَكَرَهُ رَحِمَهُ الْلَّهُ
وَالْآيَتَانِ تَتَنَاوَلَانِ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّ لَفْظِهِمَا عَامٍ
فَالأَمْرُ خَطِيْرٍ يُوَجِّبُ عَلَىَ الْمُسْلِمِ الْحَذَرَ
مِنْ أَنْ يَطْلُبُ بِعَمَلِ الْآَخِرَةِ طَمَعٍ الْدُّنْيَا
وَقَدْ جَاءَ فِيْ
" صَحِيْحُ الْبُخَارِيِّ "
أَنَّ مِنَ كَانَ قَصْدُهُ الْدُّنْيَا
يَجْرِيَ وَرَاءَهَا بِكُلِّ هِمَّهْ أَنَّهُ يَصِيْرُ عَبْدِا لَهَا
فَعَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ الْلَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُوْلُ الْلَّهِ
صَلَّ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَعِسَ عَبْدُ الْدِّيْنَارِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْدِّرْهَمِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيْصَةِ
تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيْلَةِ ، إِنَّ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ ، تَعِسَ
وَانْتَكَسَ ، وَإِذَا شِيْكَ فَلَا انْتَقَشَ
وَمَعْنَىً
( تَعِسَ ) لُغَةً : سَقَطَ ، وَالْمُرَادُ هُنَا هَلَكَ ، وَسَمَّاهُ عَبْدِا لِهَذِهِ الْأَشْيَاءَ
لِكَوْنِهَا هِيَ الْمَقْصُوْدَةَ بِعَمَلِهِ
، فَكُلُّ مَنْ تَوَجَّهَ بِقَصْدِهِ لِغَيْرِ الْلَّهِ فَقَدْ جَعَلَهُ شَرِيْكَا لَهُ فِيْ عُبُوْدِيَّتِهِ
كَمَا هُوَ حَالُ الْأَكْثَرِ ، وَقَدْ دَعَا
الْرَّسُوْلِ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيْ هَذَا الْحَدِيْثِ عَلَىَ مَنْ
جَعَلَ الْدُّنْيَا قَصْدَهُ وَهَمَّهُ بِالْتَعَاسَةِ
وَالانْتِكَاسَةً ، وَإِصَابَتُهُ بِالْعَجْزِ عَنْ انْتِقَاشِ الْشَّوْكِ مِنْ جَسَدِهِ
وَلَا بُدَّ أَنْ يَجِدَ أَثَرُ هَذِهِ الْدَّعَوَاتِ كُلِّ
مِنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْصِّفَاتِ الْذَّمِيْمَةِ
فَيَقَعُ فِيْمَا يَضُرُّهُ فِيْ دُنْيَاهُ وَآَخِرَتِهِ .
قَالَ شَيْخُ الْإِسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَحِمَهُ الْلَّهُ
" فَسَمَّاهُ الْنَّبِيُّ صَلَّىَ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدُ الْدِّيْنَارِ وَالْدِّرْهَمِ
وَعَبْدُ الْقَطِيْفَةِ وَعَبْدُ الْخَمِيْصَةِ ، وَذَكِّرْ فِيْهَا مَا هُوَ دُعَاءْ بِلَفْظِ الْخَبَرِ
وَهُوَ قَوْلُهُ : " تَعِسَ وَانْتَكَسَ
، وَإِذَا شِيْكَ فَلَا انْتَقَشَ "
وَهَذَا حَالُ مَنْ إِذَا أَصَابَهُ شَرٌّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ
وَلَمْ يُفْلِحْ ؛ لِكَوْنِهِ تَعِسَ
وَانْتَكَسَ ، فَلَا نَالَ الْمَطْلُوْبَ وَلَا خَلَصَ مِنَ الْمَكْرُوْهِ ، وَهَذِهِ
حَالُ مَنْ عَبَدَ الْمَالَ ، وَقَدْ وَصَفَ ذَلِكَ
بِأَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ ، وَإِنْ مُنِعَ سَخِطَ ، كَمَا
قَالَ تَعَالَىْ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِيْ الْصَّدَقَاتِ فَإِنْ
أَعْطُوا مِنْهَا رَضُوْا وَإِنْ لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُوْنَ
رِضَاهُمْ لِغَيْرِ الْلَّهِ ، وَسَخَطِهِمْ لِغَيْرِ الْلَّهِ
وَهَكَذَا حَالُ مَنْ كَانَ مُتَعَلِّقا مِنْهَا بِرِئَاسَةِ أَوْ صُوْرَةٍ وَنَحْوِ
ذَلِكَ مِنْ أَهْوَاءِ نَفْسِهِ ، إِنَّ حَصَلَ لَهُ
رَضِيَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ سَخِطَ ، فَهَذَا عَبْدُ مَا يَهْوَاهُ مِنْ ذَلِكَ
وَهُوَ رَقِيْقٌ لَهُ ؛ إِذْ الرِّقُّ وَالْعُبُوْدِيَّةُ
فِيْ الْحَقِيقَةِ هُوَ رِقُّ الْقَلْبِ وَعُبُودِيَّتُهُ ، فَمَا اسْتَرَقَّ
الْقَلْبَ وَاسْتَعْبَدَهُ فَهُوَ عَبْدُهُ "
إِلَىَ أَنْ قَالَ : " وَهَكَذَا طَالِبُ الْمَالِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَعْبِدُهُ
ويَسْتَرِقِهُ ، وَهَذِهِ الْأُمُورُ نَوْعَانِ
الْأَوَّلِ
مِنْهَا مَا يَحْتَاجُ الْعَبْدُ كَمَا يَحْتَاجُ إِلَىَ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَمَنْكِحُهَ
وَمَسْكَنُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، فَهَذَا يَطْلُبُ مِنَ الْلَّهِ ، وَيُرَغِّبُ إِلَيْهِ فِيْهِ
فَيَكُوْنُ الْمَالُ عِنْدَهُ يَسْتَعْمِلُهُ فِيْ حَاجَتِهِ بِمَنْزِلَةِ حِمَارَهُ الَّذِيْ
يَرْكَبُهُ ، وَبِساطَهُ الَّذِيْ يَجْلِسُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَعْبِدُهُ فَيَكُوْنُ هَلُوْعا
الْثَّانِيَ
وَمِنْهَا مَا لَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْعَبْدُ
فَهَذَا يَنْبَغِيْ أَنْ لَا يَعْلَقَ قُلْبْهِ بِهِ
فَإِذَا عَلَقٍ قَلْبِهِ صَارَ مُسْتَعْبَدَا لَهُ ، وَرُبَّمَا
صَارَ مُسْتَعْبَدا وَمُعْتَمَدَا عَلَىَ غَيْرِ الْلَّهِ
فَلَا يَبْقَىْ مَعَهُ حَقِيْقَةُ الْعُبُوْدِيَّةِ لِلَّهِ ، وَلَا
حَقِيْقَةً التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ ، بَلْ فِيْهِ شُعْبَةٌ
مِنْ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ الْلَّهِ ، وَشُعْبَةَ
مِنَ التَّوَكُّلِ عَلَىَ غَيْرِ الْلَّهِ ، وَهَذَا
أَحَقُّ الْنَّاسِ بِقَوْلِهِ صَلَّ الْلَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
تَعِسَ عَبْدُ الْدِّيْنَارِ
تَعِسَ عَبْدُ الْدِّرْهَمِ ، تَعِسَ عَبْدُ
الْخَمِيْصَةِ ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيْلَةِ ، وَهَذَا
عَبْدُ لِهَذِهِ الْأُمُورِ ، وَلَوْ طَلَبَهَا
مِنَ الْلَّهِ فَإِنَّ الْلَّهَ إِذَا أَعْطَاهُ إِيَّاهَا
رَضِيَ ، وَإِنْ مَنَعَهُ إِيَّاهَا سَخِطَ ، وَإِنَّمَا
عَبْدُ الْلَّهِ مَنْ يُرْضِيْهِ مَا يُرْضِيَ
الْلَّهَ ، وَيَسْخَطُهُ مَا يُسْخِطُ الْلَّهَ
، وَيُحِبُّ مَا أَحَبَّهُ الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ
وَيُبْغِضُ مَا أَبْغَضَهُ الْلَّهُ وَرَسُوْلُهُ
وَيُوَالِيَ أَوْلِيَاءَ الْلَّهِ ، وَيُعَادِيَ
أَعْدَاءُ الْلَّهِ ، فَهَذَا الَّذِيْ اسْتَكْمَلَ الْإِيْمَانَ
" انْتَهَىَ كَلَامُهُ رَحِمَهُ الْلَّهُ
قُلْتُ : وَمَنْ عُبَيْدِ الْمَالِ الْيَوْمَ الَّذِيْنَ يُقْدِمُونَ عَلَىَ الْمُعَامَلَاتِ
الْمُحَرَّمَةٌ وَالْمَكَاسِبِ الْخَبِيْثَةِ بِدَافِعِ حَبَّ
الْمَادَّةِ ، كَالَّذِينَ يَتَعَامَلُوْنَ بِالْرِّبَا مَعَ الْبُنُوْكِ وَغَيْرِهَا
وَالَّذِينَ يَأْخُذُوْنَ الْمَالِ عَنْ طَرِيْقِ الْرِّشْوَةِ
وَالْقِمَارِ ، وَعَنْ طَرَيِقَ الْغِشُّ فِيْ الْمُعَامَلَاتِ وَالْفُجُورِ فِيْ
الْمُخَاصَمَاتِ ، وَهُمْ يَعْلَمُوْنَ أَنَّ هَذِهِ
مَكَاسِبُ مُحَرَّمَةٌ ، لَكِنْ حُبِّهِمْ لِلْمَالِ أَعْمَىً بَصَائِرَهُمْ
وَجَعَلَهُمْ عَبِيْدَا لَهَا ، فَصَارُوْا يَطْلُبُوْنَهَا مِنْ أَيِّ
طَرِيْقِ
{ نَسْأَلُ الْلَّهَ الْعَافِيَةَ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الْمُسْلِمِيْنَ مِنْ الْشُّحِّ الْمُطَاعِ
وَالْهَوَىَ الْمُتَّبَعَ ، وَإِعْجَابَ كُلِّ ذِيْ رَأْيٍ بِرَأْيِهِ