فنجد -مثلاً- أنه حتى الكفار مفطورين على حب العدل, وكراهية الظلم, فالنفس الإنسانية جعلها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مرنة تقبل الخير والشر ويجتمعان فيها، وهذه من حكمة الله، ومن ابتلاء الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن جعلها هكذا.
وكما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {أصدق الأسماء حارث وهمام لأن الإنسان دائماً يهم ويفكر ويعمل، ولكن كيف يكون هذا العمل؟ {من الملك لمة ومن الشيطان لمة كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه, وهذا دليل على منهج أهل السنة والجماعة في اجتماع الخير والشر للإنسان؛ فتجتمع كبائر موبقات مع حسنات بالغات، فيقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { من يأتي بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا وسب هذا }، وقد قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: { سباب المسلم فسوق } وما أكثر من يشتم الناس الشتم بأنواعه! إما أن يدعو شخصاً بلقب معين, وإما أن يأتي وقد قذف هذا بمصيبة, أو أكل مالَ هذا, أو سفك دمَ هذا, وهذه أمثله قد تجتمع جميعها في واحد, وقد يقع منها ثلاثة, أو اثنين أو واحد بحسب تقوى المرء؛ إنما المراد أن هذا يقع، فهذا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يضرب مثلاً للصورة الذهنية المتكاملة؛ أنه في جانب الحسنات أتى بصلاة وزكاة وصيام, وفي جانب السيئات أتى بشتم, وقذف, وضرب, وسفك دم, فكيف يكون الحكم؟ فيعطى هذا من حسناته, وهذا من حسناته, فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم وطرحت عليه.
إذاً عندنا احتمال أن يعطيهم من حسناته ويبقى له حسنات فيكون ناجياً، فيحتاج الواحد منا -على الأقل- إذا كان يعرف أنه يقع في أموال الناس ودمائهم وأعراضهم أن يجتهد في كسب الحسنات حتى يبقى له منها شيء, فالعاقل من يتدبر ويفكر في عاقبته.
أما الاحتمال الآخر الذي ذكره النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أن تفنى حسناته قبل أن يقضى ما عليه، فتنتهي ولا يزال غارماً لم يقض دينه، ولا أعطاهم حقهم، والحسنات قد انتهت، فهنا لا بد من عدل, ولا بد من القصاص بين يدي الله الذي لا يُظلم أحد عنده، فيؤخذ من سيئاتهم فتطرح عليه، وقد يكون المقذوف من أهل الفسق والزنا والفجور الذين لهم سيئات, لأن الحديث يدل على هذا المذهب من الجهتين, من جهة المفلس ومن جهة أصحاب الدين، فهؤلاء أيضاً لهم سيئات, ولكن مع ذلك لا يسقط حقهم في المطالبة والمؤاخذة فيأخذون حسناته, فما الفائدة إذاً؟
كنت ترى من فضل الله عليك في الدنيا أنك كنت تقوم تصلي وهؤلاء يفسدون في الأرض, ويسرفون على أنفسهم بالمعاصي؛ فالنتيجة أن معاصيهم أخذت فطرحت عليك -نعوذ بالله من سوء الخاتمة- وكفى هذا زاجراً للمؤمن أن يكف لسانه ويده عن المسلمين، كما قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه وماله وعرضه فلو روعيت هذه الحرمات, وأعطيت حقها, وحفظها المسلمون لكان حالهم غير الحال، ولكن نرى أكثر الناس يستسهلون ذلك حتى لا يكادوا يعدونها من الذنوب.. فالحذر الحذر!