قال الحسن البصري : إن كان الرجل ليجلس المجلس فتجيئه عبرته فيردها فإذا خشي أن تسبقه قام .
وقال سيفان : إذا استكمل العبد الفجور ملك عينيه يبكى بهما متى يشاء
وقال عبد الكريم بن رشيد : كنت في حلقه الحسن فجعل رجل يبكى وارتفع صوته فقال الحسن إن الشيطان ليبكى هذا الآن .
وكان أيوب السختيانى في ثوبه بعض الطول لستر الحال وكان إذا وعظ فرقَّ فَرَقَ من الرياء فيمسح وجهه ويقول : ما أشد الزكام .
وقال ابن الجوزى : كان ابن سيرين يتحدث بالنهار ويضحك فإذا جاء الليل فكأنه قتل أهل القرية .
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا *** الليل هزتني إليـك المضاجــع
أقضي نهاري بالحديث وبالمنــى *** ويجمعني والهم بالليل جامع
وقال حماد بن زيد
وهذا شيخ الإسلام محمد بن أسلم الطوسى يقول عنه خادمه أبو عبد الله كان محمد يدخل بيتا ويغلق بابه ويدخل معه كوزاً من ماء فلم أدر ما يصنع حتى سمعت ابناً صغيراً له يبكى بكاءه فنهته أمه فقلت لها ما هذا البكاء؟ فقالت إن أبا الحسن يدخل هذا البيت فيقرأ القرآن ويبكى فيسمعه الصبي فيحاكيه فكان إذا أراد أن يخرج غسل وجهه فلا يرى عليه أثر البكاء .
من هنا نجد أن السلف الصالح أدرك حقيقة الإيمان وحققوه في حياتهم قولاً وعملاً وكانت سيرتهم العطرة زاداً يشحذ الهمم الراكدة وينير القلوب التي أظلمتها المعاصي ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتطف بعضاً من سيرتهم ونسبح لحظات في جو إيماني مع خير الناس على وجه الأرض .
* كان محمد بن المتكدر ذات ليله قائم يصلى إذ استبكى فكثر بكاؤه حتى فزع له أهله فسألوه : ما الذي أبكاك؟ فاستعجم عليهم فتمادى في البكاء فأرسلوا إلى أبى حازم وأخبروه بأمره فجاء أبو حازم إليه فإذا هو يبكى فقال : يا أخي ما الذي أبكاك ؟ قد رعت أهلك فقال له إني مرت بي آيه من كتاب الله عز وجل قال : ما هي ؟ قال : قول الله تعالى [وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ] قال فبكى أبو حازم معه واشتد بكاؤهما فقال بعض أهله لأبى حازم جئناك لتفرج عنه فزدته ، فأخبرهم ما الذي أبكاهما .
* وعن مهران بن عمرو الأسدى قال سمعت الفضيل بن عياض عشية عرفه بالموقف وقد حال بينه وبين الدعاء البكاء يقول واسوأتاه وافضيحتاه وإن عفوت وروى أحمد بن سهل قال : قدم علينا سعد بن زنبور فأتيناه فحدثنا قال : كنا على باب الفضيل بن عياض فاستأذنا عليه فلم يؤذن لنا فقيل لنا إنه لا يخرج إليكم أو يسمع القرآن قال وكان معنا رجل مؤذن وكان صيتا فقلنا له : إقرأ فقرأ [ألهاكم التكاثر] ورفع بها صوته فأشرف علينا الفضيل وقد بكى حتى بل لحيته بالدموع ومعه خرقه ينشف بها الدموع من عينيه وأنشا يقول
بلغت الثمانين أو جزتها *** فماذا أؤمل أو أنتظــــر
أتى ثمانون من مولـــدى *** وبعد الثمانين ما ينتظر
عَّلتنى السنون فأبليننــى *** ......................
قال ثم خنقته العبره وكان معنا على بن خشرم فأتمه لنا يقول
علتنى السنون فأبليننى *** فرقت عظامى وكل البصر
وعن سفيان قال كان سعيد بن السائب الطائفي لاتكاد تجف له دمعه إنما دموعه جاريه دهره إن صلى فهو يبكى وإن طاف فهو يبكى وإن قرأ في المصحف فهو يبكى وإن لقيته في طريق فهو يبكى قال سفيان فحدثونى أن رجلاً عاتبه على ذلك فبكى ثم قال : إنما ينبغى أن تعذلنى وتعاتبنى على التقصير والتفريط فإنهما قد استوليا على قال الرجل : فلما سمعت ذلك انصرفت وتركته .
* وقال الثورى : جلست ذات يوم أحدث ومعنا سعيد بن السائب الطائفي فجعل سعيد يبكى حتى رحمته فقلت : يا سعيد ما يبكيك وأنت تسمعنى أذكر أهل الخير وفعالهم ؟ فقال : يا سفيان وما يمنعنى من البكاء إذا ذكرت مناقب أهل الخير وكنت عنهم بمعزل ؟ قال سفيان : حق له أن يبكى .
* وقال أبو مُسهر كان الأوزاعى رحمه الله يحيى الليل صلاه وقرآنا وبكاء وأخبرنى بعض إخوانى من أهل بيروت أن أمه كانت تدخل منزل الأوزاعى وتتفقد موضع مصلاه فتجده رطباً من دموعه في الليل.
* وعن القاسم بن محمد البغدادى قال كنت جار معروف الكرخى فسمعته ليله في السحر ينوح ويبكى وينشد :
أي شيء تريد منى الذنوب *** شغفت بي فليس عنى تغيب
ما يضر الذنوب لو أعتقتنى *** رحمه لي فقد علاني المشيـب
* قال الحارث بن سعيد كنا عند مالك بن دينار وعنده قارىء يقرأ [ إذا زلزلت الأرض زلزالها ] فجعل مالك ينتفض وأهل المجلس يبكون حتى انتهى القارىء إلى [ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ] فجعل مالك يبكى ويشهق حتى غشى عليه فحمل بين القوم صريعاً .
* وروى أحد أقرباء رباح بن عمرو القيسى قال : كنت أدخل عليه في المسجد وهو يبكى وأدخل عليه البيت وهو يبكى فقلت له أنت دهرك في مأتم فبكى ثم قال يحق لأهل المصائب والذنوب أن يكونوا هكذا .
* أتى الحسن البصرى بكوز من ماء ليفطر عليه فلما أدناه إلى فيه بكى وقال ذكرت أمنية أهل النار قولهم [أن أفيضوا علينا من الماء] وذكرت ما أجيبوا به [إن الله حرمهما على الكافرين] .
* وعن إبراهيم بن الأشعث قال كنا إذا خرجنا مع الفضيل في جنازة لا يزال يعظ ويذكر ويبكى حتى لكأنه يودع أصحابه ذاهب إلى الآخرة حتى يبلغ المقابر فيجلس فكأنه بين الموتى جلس من الحزن والبكاء حتى يقوم وكأنه رجع من الآخرة يخبر عنها .
* وعن عاصم قال : سمعت شقيق بن مسلمه يقول وهو ساجد رب اغفر لي رب اغفر لي إن تعف عنى تعف عنى تطولا من فضلك وإن تعذبني تعذبني غير ظالم لي قال ثم يبكى حتى أسمع نحيبه من وراء المسجد .
* وصلى تميم الدارى ليله حتى أصبح أو قارب الصبح وهو يقرأ آية ويرددها ويبكى [ أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات ]
ذاك والله هو الإيمان الحق الذي ليس بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقة العمل وهؤلاء هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولاهم يحزنون وإن لم يكن هؤلاء أولياء الله فليس لله ولى .
ذاك الإيمان الصادق تجسد في هؤلاء