التميز خلال 24 ساعة
 العضو الأكثر نشاطاً هذا اليوم   الموضوع النشط هذا اليوم   المشرف المميزلهذا اليوم    المشرفة المميزه 

ولي العهد يتوِّج الهلال بـ"كأس الملك
بقلم : جنون الشوق


تتوالى مسيرة العطاء هنا في بعد حيي الى ان يحين قطاف الثمر فيطيب المذاق وتتراكض الحروف وتتراقص النغمات عبر كلماتكم ونبض مشاعركم وسنا اقلامكم وصدق ابجدياتكم ونقآء قلوبكم وطهر اصالتكم فآزهرت بها اروقة المنتدى واينعت . فانتشت الارواح بعطر اقلامكم الآخاذ و امتزجت ببساطة الروح وعمق المعنى ورقي الفكر .. هذا هو آنتم دانه ببحر بعد حيي تتلألأ بانفراد وتميز فلا يمكن لمداها العاصف ان يتوقف ولا لانهارها ان تجف ولا لشمس ابداعها ان تغرب.لذلك معا نصل للمعالي ونسمو للقمم ..... دمتم وطبتم دوما وابدا ....... (منتديات بعد حيي).. هنا في منتديات بعد حيي يمنع جميع الاغاني ويمنع اي صور غير لائقه او تحتوي على روابط منتديات ويمنع وضع اي ايميل بالتواقيع .. ويمنع اي مواضيع فيها عنصريه قبليه او مذهبيه منعا باتاا .....اجتمعنا هنا لنكسب الفائده وليس لنكسب الذنوب وفق الله المسلمين للتمسك بدينهم والبصيرة في أمرهم إنه قريب مجيب جزاكم الله خير ا ........ كل الود لقلوبكم !! كلمة الإدارة

 
 
العودة   منتديات بعد حيي > المــــنتديات الأدبيـــــــة > منتدى التراث الشعبي والقصص
 
 
« آخـــر الـــمـــشـــاركــــات »
         :: وفاة والدتي محتاجه دعواتكم (آخر رد :♥ غفوة حلم ♥)       :: ........ نايفات ........ (آخر رد :نايف سلمى)       :: في خواطرنا كلام ... (آخر رد :نايف سلمى)       :: اسألك بإحساس القصائد ( من أنت ) (آخر رد :نايف سلمى)       :: هذا أنا مقدر أكون غيري أنا ❤ (آخر رد :زفرات الصمت)       :: ولي العهد يتوِّج الهلال بـ"كأس الملك (آخر رد :نايف سلمى)       :: && شَـذرَاتٍ بَاقِيَة && (آخر رد :زفرات الصمت)       :: سجل دخولك أذكار الصباح والمساء .. (آخر رد :زفرات الصمت)       :: $$ نسينا من يخل في الوعد $$ (آخر رد :جنون الشوق)       :: شجن حياك الله (آخر رد :شجن.)      

الإهداءات
من تخيلتك : نورتنا بعودتك تخيلتك تناديني من طول الغيبات جاب الغنايم     من البيت : طابت أوقاتكم ..أتمنى أن تكونوا بصحة جيدة أنتم و من تحبون .. سعيد برؤيتكم من جديد ..     من USA : مليون مبروك للغاليه ((ريم الشمري ))الترقيه ومزيداً من التقدم والرقي فانتي اهلاً لها وشكرا لإدارة المنتدى على الاهتمام بالمتميزين     من الملعب : الف مبروك حقَّق الفريق الأول لكرة القدم بنادي العين الإماراتي بطولة دوري أبطال آسيا؛ وذلك عقب تغلُّبه في المباراة النهائية التي أُقيمت مساء اليوم السبت على يوكوهاما الياباني     من سلمى الشموخ : الغربة لاتعني الابتعاد عن من تحب........ ‏بل الغربة ماتشعر به في وجودهم     من البيت : مـآ’ليُ مزٍـآجٌ .. آحبُ غيرٍكَ وٍـأحآكيهُ حتى لـوٍ ـأنيُ كنتَ داخلُ مــزٍـآجهُ ..     من امممم الـوَتـَمْ .. : يمكن ما نبكي ..؛ بس تجينا ضيقه ، توجع أكثر من البكي بَ مليون مرّه ..!     من الصاله : مبارك عليك الاشراف ...ريم الشمري …ومبارك علينا تواجدك الرائع معنا أنتي أهل لها إن شاء الله أعانك الله على هذه المسؤولية وكل الشكر لادارتنا الكريمة     من باريس العرب : الف مبروك شاعرتنا ريم على الترقيه ومنها للاعلى وفقك الله دوم     من الجزائر : محورنا هو الضياع فالأرض لن تحملنا لثقلِ قلوبنا و لا السماء ترضى لون الدماء     من اممم الفَـرَحْ : فاشرح بنورك يَا إلهي صَدرنَا وَ اجعل لَنَا دَرْب الحَيَاة رحيبا ..!    

 
 
 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-12-2006, 11:38 PM   #1


الصورة الرمزية دلوع
دلوع غير متصل

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 457
 تاريخ التسجيل :  Feb 2005
 أخر زيارة : 08-20-2009 (03:12 PM)
 المشاركات : 426 [ + ]
 التقييم :  50
لوني المفضل : Cadetblue
دموع التراب -1-نعوووووووووووووود من جديد



دموع التراب -1-
رواية بسام السلمان

بنت المقبرة



- 1 -
دخلنا المقبرة..
كانت بثوبها الأبيض الذي لم يتلون بعد، وكنت في ملابسي السوداء ، ليس حدادا على أحد بل فرحا بعرسنا.

-2-
قالت بعد أن تركنا الناس فرحين بزفافنا:
- هل ستفي بوعدك ؟
كنت نسيت من فرط فرحتي وأنا العريس، والفرح مشروع لي في مثل هذه الأوقات.
تجاهلت كلامها مدعيا أني ناس
فانا لم أكن أظنها جادة في طلبها..
- عن أي وعد تتحدثين؟
تبسمت وقالت:
- اتمنى ان لا يكون النسيان صفة ثابتة لديك.
تغابيت قليلا وقلت.
- لا ادري عن ماذا تتحدثين.
- زيارة المقبرة.
ليلة العرس في مقبرة.. شيء لا يصدق.. نسيت وعدي أو لم أكن جادا وقتها.
قلت لها مبتسما ومتجاهلا:
- أي مقبرة أيتها العروس الياسمينة؟
قالت بابتسامة حزينة:
-زيارة المقبرة قبل زيارة جسدي.. هل نسيت؟
المقبرة؟! وفي منتصف الليل. وليلة زفافنا.
قلت لها متذكرا وعدي:
- لا، لم أنس ولكنها ليلة دخلتنا وهي ليلة العمر.. إنها ليلتنا
- لكنه الشرط ووعد الحر دين.
- ألا نستطيع تأجيل زيارة المقبرة إلى صباح الغد أو ليله إن أردتها ليلا.
طأطأت رأسها قليلا وابتسمت برجاء وقالت:
- لا، أرجوك فِ بوعدك.
منذ آلاف السنين ومئات العرسان مثلي ينتظرون هذه الليلة وهذه اللحظات، منذ أكثر من عشرين سنة وأنا أمني النفس بليلة دخلة، أفرغ فيها كل محبتي داخل رحم عروس ليكون طفلا مشتركا يجمعه الحب.
منذ أن كنا نلعب -عندما كنا صغارا -عريس وعروس في بيت تسوره الحجارة الصغيرة دلالة على الخصوصية ، وأنا أرى في تلك الفتاة الغجرية التي كانت تسكن في خيمة قرب منزلنا في ساحة الحارة..كنت أراها عروسا في ليلة دخلة..
تلك الفتاة كانت دائما تشاركني منزلي الذي تسوره الحجارة ،كنا أنا وهي نمثل العريس والعروس ولمدة خمس سنوات، في كل صيف كانوا يحضرون إلى الرمثا كعشائر تسكن الخيم في تلك الساحة في الحارة القبلية.
كنا أنا وهي نلعب دور العريس والعروس ..كنت أحلم بهذه الليلة دائما ..أحلم بها وتأتين في هذه اللحظات السريعة المؤلمة تطلبين قضاءها داخل أسوار المقبرة.
لا بد أنك تعشقين الموت.. وتحبين القبور، وإلا ما الذي يجعل من عروس ياسمينة تجلت روعة وزهوا هذا اليوم، ما الذي يدفعها لأن تبدأ حياتها الغرامية في زيارة القبور.
((رأيتك حلما منذ أكثر من سنة ..أردت أن يتحقق فاتفقنا معا على أن يظل حلما حتى لا يكون هناك استيقاظا..
كنت أنتظر هذا اليوم لتجمعنا غرفة واحدة ونضع رأسينا على مخدة واحدة..لا بل أضع رأسي على صدرك الذي عشقته قبل أن أعشق عينيك وقبل أن أعشقك أنت..صدرك الجميل الذي يشبه كل فواكه الدنيا يضم في أحد جنبيه قلبا أحبني بعد أن كره الدنيا.))
**
-3-
ودخلنا المقبرة..
سكون مخيف..ارتعشت خوفا .. خفت ألما.
هي سرت جدا . ضحكت وارتعشت فرحا.
بكت بعد أن فرحت.
بكيت خوفا ورعبا وندما..
بكيت حسرة على هذه الليلة.
بكت فرحا قديما محبوسا في صدرها النافر الذي انتظرته كل هذه السنين.
الوقت منتصف الليل.. عريس وعروس بلباس الزفاف بين القبور، لو رآنا جني تلك الليلة لخاف منا.
حاولت التكلم ، غصت أحرفي في فمي .
لم أستطع الكلام..
قرأت هي قرآنا للأموات.
لم أستطع قراءة الفاتحة ..
نظرت إلّي وتبسمت ..
حسبتها جنية في منتصف الليل خرجت لترعبني وتتلبسني..جنية جميلة..بنت ملك من ملوك الجانّ..
تبسمت ثانية، فخفت مرة أخرى وازدادت مشاعر الرهبة والرعب في داخلي.. حسبت نفسي سأدفن هذه الليلة في هذه المدينة العامرة بالأموات.
أمجنونة هي أم جنية أم كلانا عريسان مجنونان..
لماذا أطاوعها؟ ألست الرجل الآمر الناهي ؟
ضحكت من نفسي وأنا أرتجف خوفا ..تذكرت صديقي عندما قال لي أول أمس.. قبل زفافي المتعوس والمنحوس بليلة واحدة:
-( احذر الخوف فانه يمنع الانتصاب).
أي انتصاب وأي خوف.. إنني الآن غير قادر على الوقوف.
تحركت نسمات هوائية باتجاه المقبرة قادمة من المدينة النائمة والغافية والمطلة على مقبرة ليلى شرقا والشلالة غربا.
حركت هذه النسمات أشواكا وجدت لها بيتا بين القبور وتيبست لتكون كساكني هذه المدينة.
أخرجت الأشواك حفيفا خفيفا فهبط قلبي حتى أنّي شعرت به بين قدميّ..
ازداد قلبي خوفا وألما ورعبا.
هي ما زالت تتنقل بين القبور .. تصافح قبرا وتقبل قبرا وتقرأ الفاتحة فوق رأس قبر آخر.
جلست في وسط المقبرة.
سكون مخيف. قبور درست ولم يتبق منها إلا حجارة صغيرة تكاد لا يبان لها أثر. وقبور جديدة محاطة بطوب على شكل مستطيل ممتلئ بالأتربة، قبور لأطفال رضع ، صغيرة ما زالت تبكي أمهاتها جوعا أو ألما.
شعرت بخوفي وقالت:
-تحمّلني.. فأنت أحببتني وقبلتني رغم كل الظروف السيئة التي أحاطت بي كالسوار حول المعصم.
لم أتكلم أو لم أستطع أن أتكلم.
أمسكت بيدي فشعرت بشيء من الطمأنينة .. سحبتني إلى قربها وقبلت باطن كفّي وقالت :
-أنت إنسان عظيم.
ورمت برأسها على كتفي فنسيت خوفي. ونسيت المقبرة .
قالت:
-أترى هذه القبور..إنّ من يسكنها يسمعنا ويرانا ونحن، رغم كل تكنولوجيا العالم والعلم وتقدم الإنسانية لا نستطيع سماع أو معرفة شيئا بسيطا عنهم.
حاولت إخراج حرف واحد من فمي لم أستطع. أشعلت سيجارتي لأخفف عن نفسي.
قالت:
- إنهم أحياء وأحرار داخل قبورهم في عالم لا يعلمه إلا الله، ونحن أموات وسجناء داخل هذه الدنيا..
لماذا نخاف من القبور .. أتعرف أنني عشت ليال طويلة منذ نعومة أظفاري بين القبور..
كانت ملجئي عندما هربت من ملجأ الأيتام ..وكان ساكنوها أهلي عندما قتل أهلي بصاروخ أعمى وأصبحت بلا أهل أو مكان ..
خرجت أحرفي هذه المرة غصبا، وكان الخوف هرب منّي بل إنّ كلماتها طهّرت قلبي من الخوف.
قلت:
- أنا بيتك وأنا أهلك.
- قلت لي يوما أنّ اسم مقبرة الرمثا ليلى لماذا ليلى؟
تذكرت أمي وجدّتي عندما كنّ يدعون على أحد ما يقلن :
-( إن شا الله بتزور ليلي)
قلت لها:
-يقولون إنّ أوّل من دفن فيها فتاة اسمها ليلى وأن والدها تبرع بالأرض التي دفنها فيها لتكون مقبرة، وقد تكون نسبة إلى ليلى الفتاة العربية العشيقة التي ماتت عشقا.
كلّ المقابر العربية ليلى.

-4-
رأسي مثقل بذاكرتي
يحاول التخلص منها وتحطيم كلّ أشرعتها وتدمير حصونها وأسوارها، لكنّ ذاكرتي كسرت رأسي وحمّلته ما لا يطيق وما لا يستطيع ..ذاكرتي أقوى من رأسي.
ذاكرتي ليست ككلّ الذاكرات ، ذاكرتي كبيرة ومريضة، لا بدّ من وجود ذاكرة كبيرة مثل ذاكرتي لكن لا يوجد ذاكرة تجمع السعة والمرض في آن واحد..
ذاكرتي تجمع كلّ شيء من البداية حتى إذا ما وصلت إلى نهاية الأمر تدحرجت كل الذكريات والمخلفات التاريخية من جديد .. وا.. ذاكرتي كبيرة تتسع لكلّ هموم العالم . واسعة وغير محدودة لكنها مريضة. ما أن تبدأ بالوصول إلى المنتهى حتى تترك كل شيء فيها للضياع.
حياتي مقبرة كبيرة..
لو سمح لي بإعادة حياتي منذ الرحيل الأول عندما اغتصبوا أرضي وأمي حتى موعد اغتصابي كنت عشت حياة غيرها، وكنت دربت ذاكرتي وعودتّها أن لا تتسع وتبقى طفلة صغيرة ترعى بطرقات الحيّ الترابية فلا تمرض..لكنّنا لا نختار أسماءنا ولا أعمارنا ولا ذاكرتنا أو تاريخنا.
سأبدأ من حيث وصلنا..
سأبدأ من المقبرة التي تعتبر بداية التاريخ لحياتي وبداية الموت لزمن أصر أن يظلّ يعذبني في سجوني الكثيرة.
المقبرة التي تمنّيت عليك أن تكون أول ليالي زفافنا هي بداية التاريخ الذي أبدأ منه أول صفحات حياتي.
لكن المقبرة في ليلة كهذه لا معنى لها إلا الجنون..لكنّ بدايتي كانت في المقبرة وأحب أن أبدأ بها أي حياة تعيشها ذاكرتي الواسعة والمريضة.
أحتاج منك القليل من الصمت والقليل من الإصغاء، أحتاجك كورقة بيضاء أخطّ عليها ذكرياتي وذاكرتي لتصبح أنت التاريخ الذي يحملني ليله ونهاره.
اسأل نفسي قبل أن تسألني أنت :
من أنا ومن هي ذاكرتي...
أنا متعبة وأحتاج إلى كتاب أبيض أرتاح فيه وأخطّ عليه حبر حياتي.. أحتاج إلى ذاكرة بعيدة عن العفن أغفو على بابها وتحت ظلالها . لكنّي لا أريد أن أكون متسولة على أعتاب ذكريات الآخرين ، أريد أن أملك المفتاح الذي يفتح لي أبواب الأجساد والكلمات والكتب البيضاء لأسطر عليها حروفي الكثيرة.
-5-
كنت طفلة أحب أرضي وتاريخ حضارتي ونشيدي الوطني وأكره اليهود.. أكره اليهود منذ أن كنت أتعلّم عند الشيخ أحرفي الأولي وقرآني وقوميّتي ووطنيّتي..اليهود الذين مسخهم الله قردة وخنازير سرقوا نصف وطني.
أنا لا أحب السياسة ولا أتقنها ، لكنّي مرغمة على الحديث فيها لأنها جزء من ذاكرتي ومن تاريخي.
كل النّاس أحبوا فلسطين.. ونحن عشقناها وكنّا نبكي صباحا في ساحة المدرسة نصفها الضائع.. وعائشة تقول لنا ابكوا ملكا أضعتموه ولم يحافظ عليه آباءكم.
منذ أول ليلة عشناها في المقبرة ونحن نحمل ما خفّ حمله ..كان أبي يحمل كيسا على ظهره فيه كل ما نملك ويحملني بالتناوب مع أمّي..كنت ابنتهم الوحيدة ، وكان النهر آخر مكان يجمعنا وآخر زمان لنا.
قطعنا النهر الحبيب في منتصف الليل، لم يكن أحد منّا يملك أن يحدد الوقت .انطلقنا من مخيم جنين قاصدين الأردن، كنا نسير مع العشرات من العائلات الفلسطينية الهاربة من شبح الموت والاغتصاب وبقر البطون.
كنا نسير بغير هدى ، كنا على غير هدى محمّلين بالألم والهموم والخوف وشبح الضياع الذي بات يطاردنا. والتقينا على غير موعد مع قافلة عسكرية أردنية مكونة من مجموعة من السيارات العسكرية والشاحنات، حاولنا الركوب في إحدى الشاحنات ، كنت أنا ووالدتي وأبي وخمسة من أقاربنا ، صعد أبي إلى الشاحنة وأمسك بيد أمي وساعدها على الصعود إلى صندوق الشاحنة . كنا قطعنا النهر قبل الالتقاء بالشاحنات العسكرية, وفي لحظة كان يمدّ أبي يده فيها لي ليسحب جسدي الصغير إلى الشاحنة فاجأتنا طائرات عسكرية اسرائيلية بقصف مقدمة القافلة ، قصفتنا بمختلف القنابل وخاصة النابالم الحارقةحتى تحول معظم السيارات إلى هياكل من الحديد المفتت، وفي تلك اللحظة الأخيرة من طفولتي تحركت السيارة التي فيها والداي هروبا من القنابل وبقيت وحدي أصرخ من الأرض المحروقة وأبي وأمّي يصرخان من السيارة المطاردة بقنابل النابالم. لكن الطائرات لحقت بالسيارات الهاربة وزادت من نيرانها والقصف الصاروخي وأصاب صاروخ أعمى الشاحنة التي تقل أهلي وقتلتهم.
بقيت وحدي شرقي النهر لا أدري ماذا أفعل، أهيم على وجهي مشردة أحمل بيدي دفاتر أبي ودموع أمّي كنا عددا من الناجين المتعبين المشردين.
دخلنا قرية نائمة لا أعلم عنها شيئا.. كان الوقت مظلما وأنفسنا كانت ظلمة، أحياء القرية مظلمة عقولنا معتمة شعوبنا مضللة.
بتّ تلك الليلة في ساحة لا أعرف عنها شيئا.
كل الذين رافقونا ونجوا في قافلة الهروب من الاغتصاب والقتل دخلوا في كهف سرمدي من الإغفاء.. كنت اليقظة الوحيدة بينهم لم أستطع النوم خوفا وألما ، حزينة على موت والديّ، فقدت كلّ شيء ، هرب النوم والتعب لأني كنت طوال رحلة النزوح محمولة على الأكتاف حاملة ألم اليتم.
خلوت إلى نفسي الصغيرة- سنوات قليلة من عمري عشتها طفلة ثم كبرت فجأة.. في ليل بدأت فيه حياتي الأخرى.
يقولون: الخلوة مثيرة للشهوة لكنّي كنت ما زلت ألبس طفولتي ولم تظهر علي بوادر نداء الشهوة بعد...
حدثت نفسي بصمت طفولي..مسدت على رأسي وشعري المجدول ضفائر .. كانت أمي تصنع لي منه كل صباح ضفيرتين تكادان تلامسان ردفي..كانت كل ليلة جمعة تدهنه بزيت الزيتون حتى يطول أكثر..لا أدري من أين حصلت امي على سرّ هذه الوصفة لكني أعرف أن أمي تمتاز بشعر أسود جميل وطويل.
حديثي مع نفسي الطفلة بدأ من مدرستي التي تركتها في المخيم على أمل العودة..لكن الذين تركوا أرضهم من النصف الغربي لم يعودوا إليه. مدرستي ذات البناء الصغير التي كانت تفتح ذراعيها لنا صباحا بعلمها المرفوع على سارية عالية وننشد تحته بفرح:
بلاد العرب أوطاني
من الشام لبغدان
ومن نجد إلى يمن
إلى مصر فتطوان
فلا حد يباعدنا
ولا دين يفرقنا
هل كل بلاد العرب وطن لي ولأبي ولأمي التي اغتصبت باسمهم جميعا وأمام أبصارهم..وهل تغني عن فلسطين؟ وهل تغني كل الجامعات والمدارس التي في الدنيا عن مدرستي الأولى، ورفيقاتي في المدرسة منذ الصف الأول وحتى التشات..مدرستي جميلة فهل أعود اليها..ترى ماذا حل بزميلاتي في المدرسة ومعلماتي ومديرتي التي كنت أفتتح كلمتي الصباحية بمديرتي الفاضلة ..هل احترموها أم أنهم اغتصبوها كما اغتصبوا الكثيرات واغتصبوا مدرستي وعلمي وكتبي وأرضي.
انظر في كل الإتجاهات، كل الإتجاهات تؤدي إلى الخوف وإلى الرعب، أكرر النظر فلا أرى نورا..
هناك غرب النهر تركت مدرستي وحقيبتي المدرسية وكتبي ودفاتري وأقلامي..
نهضت لأتعرف وأكتشف المكان الذي اتخذناه مناما لنا ..تمشيت قليلا بين الأجساد النائمة حد السبات من التعب.. عثرت قدمي بحجارة متراصفة متقاربة..حجارة تشبه البيوت التي كنا نبنيها ونحن نلعب( بيت بيوت)..
هل يلعب أطفال هذه القرية النائمة ( بيت بيوت) في هذا المكان؟
لكنّها كثيرة..كثيرة جدا ..تحسست أحدها إنه مبنيّ على شكل قبر..وكذلك الآخر والثالث آه ..إنها قبور وهذا قبر..يا إلهي إننا نبيت في مقبرة دون أن ندري.
لا أحد يستطيع أن يزور المقبرة في الليل... هذا ما تحدثت به جدتي.
وكانت تخبرنا أن رجال القرية يتراهنون على من يزور المقبرة في منتصف الليل ويقول :
(حنتش بنتش واللي بطلع بنتش).
وتخبرنا جدتي أنه لا يكتفي بذلك بل عليه أن يضع علامة على أحد القبور.
وتقول جدتي:
- (اخو اخته اللي بقدر يصل للمقبرة بنص الليل).
وتؤكد جدتي قلة من الرجال الذين وصلوا إلى المقبرة في منتصف الليل وفازوا بصينية الهريسة.
نحن في منتصف الليل ..وأنا وحدي في منتصف المقبرة ، لكنّي لا أستطيع أن أقول( حنتش بنتش واللي بطلع بنتش)
سألت نفسي ماذا أفعل؟ هل أوقظ النائمين؟ لكنهم متعبون جدا..حاولت أن أنام لكنّي لم أستطع النّوم خوفا..
أنهرب من أرضنا خوفا من الموت والقبور ونصحوا على أنفسنا في وسط المقبرة طوعا؟
فتاة في أول طفولتها..
الطفولة ربيع الحياة..
طفلة ما زالت تعقد شعرها بضفيرتين تصحو على حلمها داخل مقبرة..
كم تصبح الطفولة مملة وقاتلة..كم تصبح الطفولة واجبا يؤديها الأطفال غصبا .
قلت لمعلمة التاريخ قبل أن يغتصبوا أمي بأيام:
- هل التاريخ مزوّر؟
ضحكت معلمتي الفاضلة وقالت:
- لا.. ولماذا يزور؟
تبسمت شفتاي الصغيرتان وقلت لها:
- لماذا لا يوجد أي شئ عن الأطفال في التاريخ؟ ألم يكونوا موجودين أم أن الكبار يولدوا كبارا؟
وضعت معلمتي الفاضلة يدها على رأسي الذي ما زال يلمع من آثار زيت الزيتون وقالت:
-التاريخ يصنعه الكبار ..الأطفال- يا ابنتي- لهم حياتهم الخاصة المليئة بالأمل والسعادة والبعيدة عن الألم والمتاعب.
للأطفال قبل اغتصاب فلسطين حياة مليئة بالأمل والسعادة أما الآن فإن حياتنا تطفو فوق بحار من الآلام والشقاء..
طفلة في السنوات الأولى للطفولة تنام بي القبور.
تلفت يمينا ويسار أبحث عن ضوء أخضر يخرج من بين القبور كما كانت معلمة العلوم تخبرنا
(إن العظام تشع فسفورا)
ضاربة مثالا إن القبور في الليل تشع ضوءا أخضرا ، وجدتي كانت تقول:
- إن القبور في الليل تخرج أشباحا.
عدت إلى حيث يغطّ الجميع في نوم متعب. وضعت رأسي في حضني وضممت ساقاي الى صدري ولففت يديّ حول أذني وعيني ..
حاولت النوم لكن الخوف ظل رفيق ليلتي..حتى صاح ديك القرية معلنا للجميع انهضوا فأنتم أموات..
أترى هذه القبور..إنها مليئة بالأموات ونفسي كانت مقبرة وذاكرتي مليئة بالأموات..
تصمت كثيرا!
-طلبت مني الاستماع والصمت.
-أتدري أي شئ جعلني أطاردك.. نفسك القلقة ..عيونك تشي بأنك دائما قلق كأنك تحمل هموم الدنيا على ظهرك..وصمتك العجيب...
- لا يوجد في هذه الدنيا من لا يحمل هموما.
- الهموم هي التي تحملنا
- كنت كلما ازددت حبا وامعانا فيك وفي نفسك الحائرة وفي عيينك القلقتين المليئتين بالصمت.. الصمت الذي ينطق دون حروف..كلما امعنت فيك اكثر كلما ابتعدت عنك اكثر واحسست اني اسير، اننا نسير في دربين متوازيين باتجاهين متعاكسين..دربك الخفي عليّ المحفوف بالصمت حتى انني اكاد لا اراك مع اني انظر اليك..لكن حلمي يقربني منك ويجعل من الطرق المختلفة تلتقي في شارع ضيق ارسمه لنا.
حاولت ان الفت انتباهك نحوي بكل الوسائل لكنك كنت تصمت معي وتذوب احرفا مع غيري من الطالبات.. حاولت ان اهاتفك لكني عجزت عن رفع سماعة الهاتف.. قررت ان اجئ اليك فجأة..ايقنت انك اذا جئتك فجأة، ستأتي بلا موعد.
جئتك نظراتي زائغة..عيوني تحكي قصتي من بقايا دموعها..رأيتك وحدك..لاول مرة تجلس تحت شجرات الصنوبر في شارع كلية الاداب وحدك..الجامعة ملك لنا..انا وانت..الجامعة فارغة..او بدت لي فارغة..اختفت اصوات الطلبة وظل حفيف اوراق الشجر وزقزقة العصافير رفيقينا..
درت حول المكان الذي تجلس وتدخن فيه..السيجارة في يدك وكوب القهوة امامك..درت حول نفسي قبل ان ادور حولك..رأيتني .. اخرجت السيجارة من بين شفتيك..اطلت النظر الي بعينيك الصامتتين ..لم تتكلم دخنت بقسوة ورشفت القهوة ..رميت بنظرك الى الارض مرة اخرى..
انني ملعونة من بين كل النساء..
بكيت..
سالت دموعي بشكل مفاجئ..دموعي تنسكب بصمت..عاودني الشعور بأني ملعونة.
لماذا اتيت اليك؟ كرهت نفسي ..تمنيتها قتلت في ذلك النهر وانا طفلة يوم قتل والداي.
لماذا العن نفسي وابكي؟ اكنت متورطا معي في حبك..اكنت متواطئا معي في حلمي وفي همي..اكنت تدفعني لحبك دفعا..؟
اكنت تعاقبني يوم قررت ان آتي اليك غصبا لاعترف لك بحبي؟ اهو العقاب.
لم احتمل لعناتي نفسي وعقابك لي..ينبغي ان اجلس بين يديك واتحدث..حتى وان لم تتكلم وبقيت العمر كله صامتا سأثرثر حتى تملكني ..ينبغي لحكايتي معك ان تتضح وتنكشف،امام كل هذه الاصوات التي تساندني امام صمتك وقلقك.. لقد آن الاوان لان يغادرني هذا الحلم.. حلمك واستعيد يقظتي فاما حبا يسر الصديق واما رفضا يغيض نفسي وروحي. روحي ونفسي اللتان تفتت انفاسهما لحظة احتويتني في حلمي وكنت الرجل الحلم.
شعرت خلال الدقائق القليلة التي جلست فيها معك تحت شجر الصنوبر والسرو في شارع الاداب باليقظة..شعرت نفسي صالحة مباركة وليست نفسا ملعونة مسحوقة.
قلت لك:
- لماذا تستفز نفسي..لماذا تثيرها باتجاهك وتتجاهلها.
شددت بشفتيك على سيجارتك اللعينة ونفثت دخانها في اتجاه معاكس لاتجاهي فاعاد الريح الخفيف دخانها الى وجهي.
قلت لك والصمت والسيجارة وكوب القهوة الابيض يشغلانك عني:
- لماذا تعذبني وانا.. وانا احبك..
رأيت قلق عينيك يتحول اليّ في استغراب.
تركتك مسرعة ..
خرجت من شارع كنت ادعيه لنا.
اجوب شوارع الجامعة مبللة عيوني بدموع كانت وما زالت رفيقة دربي..احسست نظرات عينيك جسما ثقيلا رميته على كاهلي.. لم استطع التخلص منه ورميه عن كاهلي.
تمنيت لو انك تساعدني كي اكرهك في حلمي..لكني كلما رأيتك صدفة بالنسبة لك..ولقاءا مخططا له بالنسبة لي اتسمر في مكاني وقلبي الملعون..كان ملعونا ..يتراقص بين ضلوعي غصبا عني..
يظل حلمي يواجه يقظتك ويستسلم لك..
رؤيتك تعيدني لحياة اليقظة وتخرجني من شرنقة الحلم الطويل الفرح..حلمي بحبك هو الفرح الوحيد الذي كنت اشعر ان نفسي تعيشه.
ظلت نفسي طفلة ما تزال على مقاعد المدرسة الاولى ونفسك المعلمة الفاضلة.
نفسي مراهقة تتردد في الحلم و ظلت نفسك تجبرني على البوح لك بحبي..كنت فكرت كثيرا قبل ان أجئ اليك فجأة.. كنت اسأل لماذا انا من يبوح؟في شرقنا الرجل يعترف للمرأة..الست امرأة؟
قلت لي انك بحثت عني بعد ان هربت بحلمي من عندك..
قلت لي انك بحثت في كل كليات الجامعة في المدرجات وفي كل قاعات التدريس حتى حمامات ا لطالبات كنت تراقبها..تبحث عني في الباصات النازلة الى قاع المدينة.
انت تبحث عني وانا اراك حلما في كل لحظات يومي.
امسكتني من كتفي .. كنا بعيدين عن الطلبة..امسكتني بيدك..التفت اليك جزعة..رأيتك فجأة شعرت بك تريد ان تضمني الى صدرك.... صرخت بوجك وقتها..صرخت دون ان ادري لماذا صرخت.
(ابعد يدك عني..)
تراجعت قليلا للوراء وتراجع حلمي معك..خفت ان تتراجع كثيرا..لكنك تقدمت كثيرا معتذرا.
قلت لي انك تحبني..
وقلت:
- احببتك رغم كل شئ.. عشقتك رغم جهلي بك.احببتك لاني اعرف انك تحبينني.
ضحكت قليلا وكنت اود لو ابكي كثيرا.
الان فقط ادركت معنى صمتك..
حاولت ان تقنعني انك لي منذ البداية..واقسمت لي انك كنت تتمنى حبي وانك لم تحب امرأة من قبل الا لكي تثير في نفسي حبك.
وقلت:
- سيكون حبنا طفلا مدللا اعمل بكل ما استطيع لكي يظل قويا ابديا.
ذهبنا معا ..
حلمي ويقظتي..
سرنا وانا فرحة جدا حتى وصلت الى اقرب شجرة فارغ ظلها من طلبة الجامعة ، جلسنا..احسست وقتها انني انتهيت لان الحلم ينتهي عندما نستيقظ..وانا الان يقظة فهل اكون انتهيت ، لكنك رجل حلمي الذي لن استيقظ منه ابدا .
تخيفني ذاكرتي الواسعة والمريضة تخيفني جدا.. تجبرني دائما على الخوف.. كل الناس يمرضون بالنسيان الا انا فمرضي بذاكرتي القوية والمريضة..
هل اتنصل منك لان ذاكرتي لا تخونني وتظل بصحبتي كلما جلسنا معا.. وتحدثنا معا.. وضحكنا معا،
كانت ذاكرتي تنبش مخيلتي المريضة ، فابتدعك رجلا ترفضني وتطردني بعد ان تشي ذاكرتي لك بالماضي .. كل الماضي..
تقول لي:
- انت لغيري.. اذهبي عني .. انت لا تستحقيني..
لكني كنت اطرد اوهام ذاكرتي بحبك وبشخصك ..فأنت طيب القلب طيب الحب انت حلمي..
طاردتك في نهاري يقظة وفي ليلي حالمة.. في احلامي كنت متأكدة انك ستكون لي مهما ابتعدت مع الكثيرات من النساء.. كنت اراك تسير في الجامعة مع الفتيات فأشفق عليك اولا وعلى نفسي ثانيا.. فنحن مهما ابتعدنا فانا سنعود ونلتقي..
في يقظتي كنت اشفق على تلك اللحظات التي ستعرف فيها اني لست بكرا..
نعم، انها الحقيقة
لكنه ليس ذنبي .. وحوش مزروعة في ليل الشوارع كالنخيل..قتلت هذه الوحوش ، قتلت في نفسي شهوة المراهقة وعفة الطفولة وخجل العذارى.
**
-6-
دخلت عمان اول مرة طفلة يتيمة الاب والام..لم يحملني ابي كثيرا، ولم تعد امي تدهن شعري بزيت الزيتون وتصنع لي ضفائر تصل الى قدميّ او الى...
تلك الليلة التي استيقظت فيها من حلمي من طفولتي وصحوت على قبور متناثرة لا يرى فيها شيئا سوى القبور ورائحة الموت.
صاروخ اعمى او مبصر .. لا ادري انما اعلم انني اصبحت يتيمة لا اهل لي.. كنا لاجئين في مخيم جنين ، وكان ابي يرفض ان نتوجه شرقا ويقول:
- نسكن هذا المخيم لنكون اقرب ما نكون لارضنا .
كان متأكدا من العودة لمنزلنا .
ويقول لي:
-سترجعين الى مدرستك وكتبك وزميلاتك بعد ان ترجع فلسطين.
كان يأمل كثيرا بعودة فلسطين.
لكنا رحلنا الى المخيم، في ليل معتم نقلنا مع بعض العائلات الى مخيم مليء بالصفيح الذي تعذبه الشمس صيفا والرياح العاتية شتاءا.
**
مررنا وسط عمان.
الشوارع في عمان تحيط بكل شئ وتسير في كل الاتجاهات.. السيارات كثيرة وجميلة تسير بسرعة كانها في ميدان سباق ، لا شئ يوقفها او ينظم حركة سيرها، شرطي المرور حاذق بحركة يديه لكن الابواق..ابواق السيارات عالية ومزعجة.. اطفال يلعبون امام المنازل ونساء يشمسن اثاث منازلهن، طفل يجلس وامامه صندوق وفوق الصندوق يضع رجل قدمه والطفل يحمل بيده فرشاة كبيرة يمسح فيها حذاء الرجل، المحلات التجارية مليئة بالالبسة الرائعة والجميلة والتي كنت دائما اتمناها وكانت امي تخفف من صدمتي بالامنيات غير المتحققة .
وكانت تقول لي:
- ان شاء الله في العيد.
ويأتي عيد الفطر ولا اجد الفستان المليء بالازهار فتقول امي:
-ان شاء الله في عيد الضحية.
لعمان اسرار خفية تختفي في شوارعها الخلفية وفي قاع المدينة وفي اشجار الياسمين.. اسرار عمان تنام معها في عتمة الليل وتصحو على صوت الديكة واشعة الشمس.
بدا لي لاحقا ان عمان كانت تعيش مثلي يتيمة وانها عاشت سنوات طفولتها وشبابها في المقابر..
وكانت ذاكرتي المريضة تؤكد لي ان عمان ولدت مثلي ولادة تشرينية خريفية.
رأيت عمان تولد في وقت تهاجم فيه الريح كل شئ فترمي اوراق الشجر عن فروعها وتكسرها امام الشجرة الام دون ان تبدي أي معارضة لانها مدركة ان بعد تشرين يأتي اذار لا محالة ..لكن اذاري لم يأتي..كأمي كانت مدركة ان بعد حملها بي تلدني..
لكني ابنة خريفية ولدت في تشرين كعمان بنت خريفية ولدت في تشرين. ولدت في ملجأ الايتام مرة ثالثة ، الثانية كانت في المقبرة والاولى كانت في طقس تشريني..
في اول مطر عرفته كنت في الخامسة ..امطرت السماء بكثرة وشدة، كانت امي اشترت لي ملابس شتوية خاصة بالشتاء وبرده القارص، كنا ننتظر قدوم حبات المطر حتى نرتدي ملابس الشتاء، نتمنى البرد لنفرح بها، وفي اول هطول للامطار خرج كل اطفال الحارة فرحين بالمطر..رفضنا الاستجابة للامهات، بللنا المطر، خلعت سترتي الجلدية، سرت تحت المطر بلا واق وعندما عدنا الى البيت ورأت امي شعري المبلول وكنت ارتجف من شدة البرد قالت :
- لماذا خلعت سترتك ؟
قلت :
-حتى لا تبتل بماء المطر...
لا ادري لماذا اشعر بعمان خريفية الطباع مثلي تماما..
انا فتاة خريفية الطباع ولدت في تشرين . الخريف وتشرين وانا دائما نعيش الحزن. كنت انت الوحيد الذي كسر لي هذه القاعدة الثلاثية..
سألت يوما مديرة دار الايتام:
-لماذا نحن في هذه الدار نعيش الحزن دائما؟
صمتت مع قسوة في عينيها.
احسستها خريفا قادما بلا ميعاد.
تابعت التحديق في عينيها.
قلت لها:
-زيارتي لقبر اهلي تنعش حياتي وتخرجني من احزاني الخريفية.. اريد زيارة قبر والديّ.
حدقت بي بتساؤل ثم وضعت قلما كان في يدها ونهضت . اتجهت نحوي ، خفت ، سألت:
-اين اهلك؟..اقصد اين قبر اهلك؟ هل تعرفين مكانا لهم.
قلت لها بابتسامة خريفية:
-أي قبر هو قبر ابي وقبر امي..انا لا اعرف قبر والديّ ولكني اشعر ان أي مقبرة هي مكانهما واي قبر هو لاحدهما حتى القبور التي اراها في التلفزيون.
اعجبها جوابي على ما اظن ولاول مرة تمسح المديرة على رأس احد نزلاء دار الايتام.لم يكن على شعري زيت الزيتون.
قالت:
- انت طفلة وتحتاجين الى الربيع والسعادة ، فانسي امر القبور.
حياتي مقبرة وذاكرتي مقبرة فكيف من كانت هذه حياته وذاكرته كيف تكون سعادته..حتى حياتي في دار الايتام فانها لم تكن افضل من العيش بين القبور.. كلها متشابهة..
كنا اكثر من عشر فتيات طفلات نسكن في غرفة واحدة..نعيش اسوأ ايام الطفولة في حياتنا.. تعرضنا خلال الفترة القصيرة للضرب وللشتم . لم نكن نعرف النظافة..كانت امي تجبرني على غسل شعري كل يوم وكنت لان شعري طويل اتهرب من غسله فكانت احيانا تعاقبني..
قالت احدى زميلات الغرفة:
-لماذا لا نهرب.؟
كنا في اول طريق الانوثة ،اول خطوة نخطوها على درج المراهقة، كنا نستطيع ان نهرب من دار الايتام بسهولة ويسر، لكن الى اين نذهب والبلد تحترق بأيلولها ..الى من نلجأ ولا اهل لنا .
نساء لا تتجاوز اعمارنا سن الطفولة ، والمصيبة اذا ما فكرنا العودة للدار بعد الهرب.
كانت البداية من الدورة الشهرية ..علمت فيما بعد من رفيقات الجامعة انهن فرحن جدا بالدورة الشهرية لانها كانت بداية الانوثة. لكن رفيقاتي وجدن امهات ، امهات يخبرنهن عن الدورة وعن الانوثة .
اما انا فكانت البداية..بداية الهروب من الدار...
جاءتنا احدى المسؤولات في دار الايتام، جاءت في ساعة ما قبل النوم ، فتشتنا، طلبت منا الوقوف ، امسكت قلما وفحصت شعرنا ، بحثت عن القمل، وجدته كثيرا وكبيرا. لفت شفتيها واغمضت عينيهاوهزت رأسها.قررت حلق روؤسنا ..شعري وصل الى منتصف ساقيّ ، شعري تحبه امي وتعشقه.
امرتنا بخلع ملابس النومس.بدأت بالقميص ضحكنا من منظر اثدائنا الصغيرة.. صرخت فينا..
صمتنا رعبا.
كنا ما نزال في اللباس الداخلي امرت اول طفلة بخلع سروالها الداخلي فحصتها بعصاها. جاء دوري ، خجلت من طريقة تفتيشها لنا، طلبت مني ان استدير، رأت بقعة حمراء على سروالي.
صاحت:
- ما هذه الدماء؟
خفت جدا ..
من اين جاءت الدماء؟! كنت في سابق الاشهر ارى نقطا من الدماء على ملابسي، لكنها لم تكن في حسابي الانثوي والطفولي تعني لي شيئا، لم اكن اعرف ماذا تعني الدورة الشهرية والبلوغ.
صرخت في وحهي مرة اخرى وقالت:
-ضعي شيئا لهذه الدماء.. ايعجبك هذا المنظر.؟
لم ادري ماذا تقصد .بكيت جدا وتساءلت :
-من اين جاءتني هذه الدماء.
في المساء سالت اودية من اللون الاحمر، دماء كثيرة ، لم تعد البقعة الحمراء على مؤخرة سروالي الداخلي فقط ، انتشرت على ملابسي وبللت منامتي وفرشتي ، لا اعرف كيف اتصرف.زميلاتي في الغرفة صرخن رعبا من المنظر وبكين جميعا.
جاءت المسؤولة تحمل بيدها العصا وقالت بعنف:
- لم تصرخن؟
صمتنا خوفا.
تجولت بيننا.
صرخت:
- اسألكن لماذا تبكين وتصرخن؟
اشارت احدى الزميلات بخوف الى الدماء.
اتجهت نحوي. وضعت العصا التي تحملها بين فخذيّ وباعدت بينهما وقالت:
- هذه دماء الدورة الشهرية.ضعي فوطة بين رجليك..غطي..غطيه..
وضربتني على مؤخرتي بقسوة وقالت:
- كوني نظيفة.
فكرت بالهروب..
تساءلت طوال الليل عن مصدر الدماء.لماذا ينزف الدم مني ؟ وماذا تعني بالدورة الشهرية. لا يوجد من يرشدني ، ما زلت طفلة لماذا قست عليّ ؟
فكرت بالهروب من الدار بشعري الطويل وانا اعلم ان احدا لن يفكر بأن يبحث عني..
غاب عني الليل ووحشته والم الوحدة. لم اكن اظن شوارعنا مزروعة بالوحوش.انا طفلة ومن يعبأ بطفلة مثلي..سيحنو علي ّاحدهم ويدخلني الى منزله ، فأنا يتيمة واستحق العطف.
حدثت رفيقاتي عن الهرب.
قلت:
- يجب ان نهرب
-الى اين؟
- الى الجحيم..من الجحيم.
-لكنا صغار.
-لم نعد كذلك..اصبحنا نحيض.
-لن نهرب، لا مكان نذهب اليه
وقررت الهرب تحت اصوات الرصاص ، وعرضت نفسي لليل الشوارع.ربما اجد من يحنو على طفولتي ويمسح على رأسي الصغير..
***
-7-
ليل الرمثا لا يختلف عن ليل عمان.
ولا يختلف عن ليل القاهرة او بغداد او دمشق او الرباط.
- كل الليالي العربية واحدة.
-كل الاحزان العربية واحدة.
مع اني دخلت الرمثا مرة واحدة الا اني اعرفها اكثر منك..
- انا لا اعرفها فهي بالنسبة لي فتاة بكر.
-لكنك خير من جربها.
-لكنها مازالت بكرا..
اشبه الرمثا بالمرأة التي هجرها حبيبها اولا وترملت من زوجها مبكرة وترك لها اطفالا رضع وعندما كبروا تركوها وحيدة..
الرمثا بحاراتها المختلفة تشبه كل شئ ولا تشبه أي شئ..مسجدها العمري الكبير ذو المأذنة الحجرية الضخمة تقف شامخة بين المآذن الكثيرة التي يزيد عددها عن الخمسين مأذنة..
وحارتها القبلية التي تفتح ذراعيها مرحبة بزوار الرمثا..حارتها القبلية هي الحارة الوحيدة التي ما زالت تعيش في حضن امها ولم تتركها..
الداخل من بوابة الرمثا الجنوبية بعد ان يتجاوز الدوار الرئيسي لا بد ان يسال من يراه اولا عن عنوان ما يريد الوصول اليه..
يرشدونك بطريقة تضيع فيها:
-اذهب دغري على ايدك اليسار الدوار المستحي ، امش دوغري حتى تصل الى الجامع العمري بنص السوق بتلاقي البلدية، على يسارك سوق اللحامين وعلى يمينك سوق البحارة والحسبة وبنص شارع البنوك مقام الشيخ ارشيد ، وعلى يسار سوق البحار بتلاقي التشيال(الكيال) ومن سوق اللحامين بتروح على الشلالة او على اربد.
الشلالة المكان الوحيد الذي وضعت فيه رأسي على رجلك ، نامت عيوني تحت ظل شجرة تين..وقتها تمنيت لو انك تقبلني لكنك كنت مترددا خوفا مني او خوفا من الناس المصطافين تحت شجر التين.
تركتني اغفو على ساقك لاكثر من عشر دقائق كنت وقتها اشم رائحة انفاسك واشعر باناملك تلامس شعري..كان في نفسك شيء ما. شهوة تتقد نحوي..رأيت عينيك تمارس الشهوة مع صدري الذي لم يتوقف عن الارتفاع والهبوط.. لماذا لم تقدم على تقبيلي..كنت اريدك ان تلامس جسدي باصابعك التي لم تعرف في الدنيا سوى القلم..
اتدري ان احب ارض الله الي ّالحارة القبلية.
-لماذا تحبينها؟
-لانها اول مكان نادى باسمك عاشقا لي، لان الحارة القبلية اول حارة بايعتك وبشرت بك حبيبا مسجلا في سجلات القدر.
- جئت للرمثا مرة واحدة في زيارة رفضت فيه المكوث في بيتنا الا القليل.
- كنت اريد التعرف عليك من خلال مدينتك وحارتك القبلية.
الحارة القبلية تشبه كل احياء بلاد الشام، الحارة القبلية تشبة القرية، جميع الناس فيها يعرفون بعضهم ويدعون انهم اقرباء، الحارة ا لقبلية عبارة عن عدة احياء وليست حيا واحدا.
-8-
توجهت الى المقبرة..كان الوقت فجرا دخلتها بحثا عن امي وابي لكنهما ليسا هنا..
سرت كثيرا وطويلا.
لا ادري كم مضى من الساعات والمسافات منذ ان هربت من دار الايتام..لكني هربت..هربت بشعري الطويل دون ان اعلم انا نفسي الى اين وجهتي، الي اين اذهب والى من التجئ.
- دخلت المقبرة هربا..
لكني في طريقي الى الموت تذكرت جدتي ورجال القرية والرهن عن كيلو هريسة:
- حنتش بنتش واللي بلحق بنتش.
لم ار شيئا، ولم اجد في عتمة الليل قبر والدي . سرت قليلا..اقتربت من احد القبور وضعت رأسي على حجارته ونمت حتى ايقظتني الشمس القاسية، نظرت الى المكان اتفحصه، مليء بالقبور والموت..
وحيدة اتنفس الهواء بين هؤلاء الراقدين في حياتهم.
احسست بالجوع، شدتني معدتي الما و جوعا احيانا والم الدورة الشهرية احيانا كثيرة ، لم تحمني قطعة القماش التي وضعتها تحت سروالي الداخلي من تسرب بقعة الدم على ملابسي حتى تراب القبر تلوث بي وبدمي.
دخلت عمان قبل اربع سنوات طفلة تحملها احدى السيارات برفقة قريبي من المخيم يحمل في جيبه كتابا من لجنة المخيم الذي سكنت فيه مع اقاربي..يحمل الكتاب ختما دائريا وينص على شهادة اللجنة انني يتيمة الابوين ولا اقارب لي يعرفهم احد، ومرفق مع الكتاب شهادة ميلادي واوراق ابي الرسمية وغير الرسمية..
وهل يحتاج اليتيم الى شهادة مختومة ومصدقة لكي يثبت انه يتيم .ومن يجرؤ ان يدعي اليتم .
عندما دخلنا مكتب مديرة المبرة، او دار الايتام ، سلموني للمديرة ووقعت على استلامي ، احتفظت بالاوراق الرسمية واعطتني الاوراق غير الرسمية لابي..كانت عبارة عن عدد من الدفاتر المكتوبة بخط جميل سجل فيها ابي ذاكرته الشعبية والنفسية قبل الرحيل وبعد الرحيل. كان لي فيها نصيب كبير وعندما هربت من المبرة حملت معي دفاتر ابي فقط.
دخلت شوارع عمان طفلة مبهورة بالسيارات والاضواء الكبيرة وها انا ادخلها مرة ثانية وانا امرأة او اصبحت امرأة باللغة التي تترجم فيها الفتيات الصغيرات انفسهن كنساء بالغات..انها لغة الدم.
سرت ساعات كثيرة ابحث عن يد تحنو على رأسي المصدوم باشعة شمس ايلول وجوع الليل وساعات النهار الاولى . فكرت في طلب رغيف خبز من احد المخابز لكني فشلت خجلا.
رأيت اناسا يتراكضون بلا هدف، يهربون خوفا من شي ما يطاردهم ،هربت مع من هربوا ، جلست في زاوية احدى البنايات الكبرى وكان الرصاص اوجد فيها المئات من الثقوب، دخلت البناية الفارغة وجلست تحت بيت الدرج، سمعت صوت انفاس ، خفت وكان الصوت خائفا مني، رأيته بجسده الصغير الذي يشبه جسدي يختبئ خلف صندوق صغير، رآني تبسم لي وقال:
ماذا تفعلين هنا؟
- هربت مع من هربوا
من اين جئت؟
- من المقبرة.
- ماذا ، المقبرة؟!
- نعم ، المقبرة.. وانت ماذا تفعل هنا؟
- هربت من طخ الرصاص. الم تسمعي اصوات الرشاشات؟
- بلى سمعت، لكن من اين تأتي الاصوات؟
- من النوافذ ومن السيارات والزوايا من اسطح البنايات والدبابات .
سرت كثيرا احمل في يدي دفاتر ابي وفي معدتي جوع يمزق امعائي . الجوع قاس وكافر، هل جربت يوما ان تجوع؟ لا اظنك.
سمعت فجأة صوت المؤذن ينادي ، اذان الظهر ، كانت اصوات الرصاص توقفت ،ربما احتراما للصلاة. توجهت الى الصوت، خطاي ضعيفة، وانصاتي لصوت المؤذن كاد ان يرمي بي تحت عجلات سيارة، صرخ السائق:
-(عميا)
سرت قاطعة الشوارع باتجاه صوت المؤذن، وفجاء ظهرت مآذن المسجد الحسيني الكبير،اسرعت خطاي باتجاه المسجد.رجال مسرعون باتجاه اماكن الوضوء واخرون يدخلون للمسجد .
اقتربت من الباب الرئيسي طمعا برجل يخرج من المسجد ويحنو عليّ بكسرة خبز. ورأيتها.رأيتها فجأة تجلس عند الباب ، طفلة مثلي او تصغرني بالدورة الشهرية وتكبرني بالاحزان، اقتربت منها ممزقة النظرات ، امامها بضعة قروش لم تبلغ قروشها الحفنة بعد..
اقتربت منها اكثر، اردت ان اجالسها بهمومي لكنها نظرتني بعيون من بلغ الستين الما وقالت:
- شو بدك، هاي منطقتي.
ابتسمت مدركة.
لا اريد منها شيئا سوى مشاركتي بعيونها احزاني..
قالت:
- ابعدي من هون، روحي لمكان ثاني احسن لك.
قلت لها.
- انا جائعة.. جائعة جدا.
نظرت حولها ، تفحصت المصلين ، مدت يدها الى قرش ورمته امامي وقالت:
- خذيه بسرعة واهربي.
انتظر الصباح.
الليل طويل وانا اجلس وحيدة تحت عمود الكهرباء.
كل ما حولي مليئ بالعتمة.
سيل من الخوف يحتلني..فراشي اصبح شارعا .
سيل الليل الحالك الظلمة يجالس طفلة لم تغير فوطة من القماش منذ يومين والدماء غيرت لون ملابسها، لم تتناول منذ يومين وليلتين الا قطعا من الخبز اشترتها بثمن قليل.
الخوف يستحوذ علي رأسي. يشاكسني يغلق نوافذ النور..انارة شبابيك البنايات تضاء وتطفى.
اصوات الرصاص في كل مكان..لو ان رصاصة طائشة تأتيني وتلحقني بأبي وامي ، لكن صاروخهما لم يكن طائشا.
شبابيك الحمامات صغيرة ، تضاء ، يخرج منها بخار حار مليء بالانفاس الحارة. اشم رائحة البخار يتصاعد من اجساد النساء، يتصاعد الى اعلى بعد تعب وجهد.
وانا ملقية بظهري الى عمود كهرباء وتلتصق ملابسي بجسدي المرهق والمراهق ، ولا شئ غير الملابس يحرك جسدي.
وانتظرت..
يمر الليل كئيبا قاسيا مخيفا ويمضي اول ليل لي طويلا مليئا بالتعب والارهاق يجر معه الما في رأسي لم يفارقني مدى الحياة ، يسير الليل الاول بطيئا متثاقلا كسولا.
بانتظار نهار .. لا ادري الى اين اذهب فيه .
تخرجني من خوفي اصوات رصاصات قليلة تتناثر هنا وهناك لكنها بعيدة عني.

-9-
كتب ابي في دفتره الاول:
( لا احد يحب امريكا.. كل العرب.. الشعوب العربية تكره اليهود وتكره امريكا..)
كان ابي يبدأ دفاتره بهذه العبارة حتى لو اراد ان يتحدث عن امي..
وكتب:
(عندما دخل اليهود فلسطين كعصابات قاتلة محتلة كنت ابن العاشرة.. كنا اطفالا وعرفنا من خوف اهلنا ودمار طفولتنا ورحيلنا انهم قتلوا نصف فلسطين..احتلوها، جاءت عائلات فلسطينة كثيرة سكنت القرى والمدن في الضفة الغربية وتم انشاء مخيمات كثيرة على امل العودة.)
في صفحة بعيدة عن عذابات وهجرات الفلسطينين المتكررة والتي لا نهاية لها، كتب ابي بعد ان بدأ(لا احد يحب امريكا):
(كتب ابي:
تزوجت فجأة ..كل شئ في الحياة يأتي فجأة ، وكل فجأة تأتي جميلة، لذلك كان زواجي جميلا لانه جاء فجأة .. كنت اعمل في مزرعة استأجرها ابي ، بيارات يافا جنائن ، عندما اخبرني ابي ان موعد زفافي نهاية الشهر..لم اكن اعرف من هي العروس. ابي رآها او امي رأتها واخبرت امها انها تريد البنت للولد . لم اكن ولدا كنت في العشرين وكانت هي في الخامسة عشر..وافقت ام العروس_ حماتي - فكان الايجاب والقبول.
كانت طفلة تلعب في الشارع وعندما اصبحت عروسا كانت اجمل النساء لانها جاءت فجأة.. كبرت واصبحت انثى بسرعة..البنت بتكبر قبل الشب.
قبل ان نتزوج عشقت امك رأيتها مرة واحدة تحت شجرة اللوز تنسج ثوبا فلسطينيا. )
وفي صفحة توسطت الدفتر الثاني كتب ابي.
لا احد يحب امريكا يا ابنتي.....
وكتب ابي:
(بعد زواج استمر تسعة اشهر من الحب..كنت علمت من جدتك ان امك حامل..لم تخبرني امك لانها تخجل مني.. اتعلمين يا ابنتي انني لم ار جسد امك في النهار ولا مرة او حتي في الليل.. بعد تسعة اشهر من الحب المستمر بيني انا الفلاح الفلسطيني وامك السيدة الكنعانية التي تعشقني حد الموت كنت انت ولم نكن نريدك بنتا فكنت بنتا جميلة توقعناك ذكرا لان ابي كان بكره ولدا واخواني كلهم انجبوا ذكورا وانت الوحيدة التي كسرت القاعدة فكنت بنتا .
جئت فجأة لذلك كنت جميلة .مع انهم يدعون ان هم البنات للممات. لكنك لن تكوني هما على احد..
-10-
جاء رجلان يحملان على كتفيهما السلاح..كنت استريح في مقبرتي ليلا..تعودت رائحة الموت وجيرة القبور..عنواني شرفة القبر الخامس على يمين باب المقبرة ..تعودت الليل والعتمة وخشخشة اصوات الاشواك الميتة.
كنت اسند ظهري لليوم الرابع على نصابية القبر ، كان القبر لشاب في اول ربيع حياته، جاورته صدفة واكتشفت فيما بعد ان له عشيقة تزوره خلسة ايام الخميس.. تزوره تحمل بيدها غصن ياسمين ، عرفت انه كان يعشق الياسمين .
اخبرتني انه قتل من رصاصة طائشة عمياء..هي تقول انها عمياء..الرصاص بلا عيون ولكننا نحن الذين لا نبصر ، قتل في عيوني شهوة الابصار.
ارتبطت مع ساكن القبر بصداقة غريبة شيئا ما ..احدثه ليلا فيسمعني كل الليل ، تمنيت لو يخرج لي بكفنه الابيض لاسئله:
- هل الرصاصة كانت عمياء؟..ولماذا وجدت اصلا الرصاصة؟..
الناس تخاف الموتى وانا اريد رؤية جاري الشاب ساكن القبر الخامس..
كنت على وشك النوم بعد ان تعبت نهارا ، عندما دخل الرجلان..دخلا المقبرة..كنت ما زلت اسير باتجاه المقبرة.دخلتها قبل ثوان قليلة لم اكمل طرح سلامي المسائي على جاري الشاب ، دخلا المقبرة ، كانا تتبعا خطاي الضائعة التعبة ، اقتربا مني..بكيت بصمت..رجوتهما بدموعي ،،قبلت اقدامهما.
بكيت قهرا وظلما.
صرخت:
ابي..ابي..اين حملك لي على ظهرك يا ابي ..ما زلت طفلة تحلم بلعبة تحضرها معك تحلم بأن تحملها على اكتافك.طفلة تحلم بامها تربط لها شعرها ضفائر تلمع من زيت الزيتون..
يا ابي ..هم البنات للممات..هم البنات للممات يا ابي..همي معي للممات..
صحوت من نفسي على نفسي..وتغرقني دموعي الصامتة.
ماذا فعلت بي يا نفسي؟ ماذا فعلت لك حتى تخونيني وتسلميني لليلية سوداء لا ترحم.
نهضت ..وقفت امام القبر..قبر صديقي..لم استطع مواصلة الوقوف..سقطت قدماي تحت جسدي تعبا ، حاولت مرة ثانية الوقوف خانتني قدماي، جلست مواجهة مع صديقي. نظرت اليه معاتبة.
لماذا لم تحمني .الست جارتك وحق الجار على الجار؟.الم اختر جاري قبل داري..لماذا لم تخرج لهم بكفنك الابيض، الست صديقتك والصديق وقت الضيق..
انت مثلي قتلتك رصاصة طائشة عمياء وانا قتلتني ثورة طائشة عمياء .كانت نفسي ثائرة وكنت هاربة بدموعي ودماء دورتي الشهرية فاصبحت هاربة من دموعي ومن دمائي اليومية..

-11-
ارتبطت بساكن القبر الخامس بعلاقة ود ومحبة.
فكلانا ميت وكلانا قتلته زعامة طائشة..انا قتلتني شهوة عمياء وجاري ساكن القبر الخامس قتلته رصاصة طائشة.
ربما تكون علاقتي به عشقا ومحبة ، لاني اصبحت لا اطيق الابتعاد عنه كثيرا..شكوت له همي..
كان اول انسان يعرف كل شئ عني .
مارست معه ذاكرتي خيانة البوح بمكنوناتها .حدثته انا نفسي عن كل شئ، لم اخفي عنه شيئا، لان ذاكرتي كانت لن تخفي عنه أي شئ. وها انا او ذاكرتي الخائنة المريضة تشي لك بكل شئ ، كل ما تملك، ذاكرتي مريضة بشئ اسمه الثرثرة..
اردت التعرف على ساكن القبر اكثر من أي شئ ، بلغت في جيرته سنوات طوال واعواما لا حصر لها ، تمنيت لو انه كان حبيبي انا وليس صاحبة غصن الياسمين..
اسأل نفسي بهدوء واسأل ساكن القبر.
لماذا ما زالت مصرة على زيارتك؟
هي ما زالت حية على قيد الحياة فلتختر انسانا اخر ، انا ميتة منذ هروبي من نفسي يوم اعلنت تمردي على دار الايتام وهربت ،وهو ميت برصاصة طائشة..نحن متجاوران منذ الابد..
انه لي....
سأطردها من المقبرة، لن اسمح لها بعد اليوم ان تأتي وتزور قبره..سأرمي غصنها الياسميني خارج اسوار المقبرة .اليست المقبرة عالمنا انا وهو..انا اعيش معه ليلي واغلب نهاري ، اما هي فانها تأتي اليه كل اسبوع ساعة ، انا اولى به منها..سأطردها من عالمنا..
جاءت لساكن القبر الخامس سيدة في خريف العمر. جاءت وخطواتها تقطر دمعا. تقدمت نحو قبر حبيبي وجلست على شرفتنا، بكت ، بكت كثيرا دون ان تحاول مسح دموعها..
يقولون ان الدموع تحرق الميت..
تقدمت نحوها وقلت لها:
_ انك تحرقين الميت بدموعك..
نظرت الي مستغربة وقالت:
-انه ولدي .انه ابني وانا لا احرق ابني، دموعي تبلل قبره وترطب روحه. دموع الام رحمه.
تراجعت الكلمات في فمي، لم ادر ماذا اقول لها..لا استطيع ان امنع اما ان تبكي وليدها.
قلت لها:
_ الله يرحمه، اطلبي له الرحمة.
قالت:
- كنا نعد العدة لزفافه قبل موته بقليل.
تحركت في نفسي الغيرة .حتى انت تريدين تذكيري وتذكيره بمن كان يعشق..
اللعنة تصب فوق راسك ورصاصة طائشة تطول قلبك يا صاحبة غصن الياسمين
قالت:
-كان يرفض الزواج من ابنة خالته ، ابنة اختي، عملنا المستحيل حتى اقتنع.
اتكون صاحبة الياسمين ابنة خالته ؟ ولكنها قالت انه حبيبها منذ مدة.
قالت امه:
- بعد ان وافق على الزواج من ابنة خالته، ارسلنا لهم برقية للكويت نطلب الموافقة.. دبرنا الامر انا واختي ، كانت على وشك الحضور الى عمان من اجل الزفاف، لكن رصاصة عمياء حرمتني الفرحة به..
-وهل جاءت الى عمان؟
- لا.. مازالت في الكويت، ان عمل والدها هناك..
- لا يوجد نصيب.
كان سيترك الفتاة الياسمينة.
فرحت جدا لانه لم يكن يريد الزواج منها، ان قلبه خال من الحب . ترك حبها قبل ان يقتل لصالح ابنة خالته، او لصالحي. هو الان لي ، سأطردها الاسبوع القادم لانه لا يريدها..هو لي.
لكنه يعرف كل شئ..
يعرف قصتي ولن يقبلني حبيبة له، فانا لست بكرا وذاكرتي وشت له كما تشي لك الان بكل تفاصيل قتلي..
انتم ترفضون فكرة الرجل الاخر حتى وان كنتم امواتا، ترفضون الرجل الاخر وان كانت المرأة مظلومة مثلي، لا حول لها ولا قوة.
وضعت والدة ساكن القبر الخامس في يدي نصف دينار وقراءة الفاتحة وغادرت عالمنا، عالم الاموات الى عالمهم.
هذه النصف دينار هي مهري..
نظرت اليها وتأملتها، انها مبلغ متواضع بالنسبة لها، ربما ، لكنه كبير بالنسبة لي، نصف دينار عن روح ابنها صدقة له وصداق لي..
فرحت جدا..
خرجت من المقبرة كأم تبحث عن وليدها الضائع ، سرت في شوارع عمان، بحثت عن شجرة ياسمين .
كان الوقت عصرا والشمس تميل خجلا نحو الغروب، وجدت شجرة ياسمين ، وصلتها من خلال رائحتها ، سرقت غصنا ابيض، سرت احمله كطفل ولدته واخشى عليه اشعة الشمس..
سرت مسرعة حتى دخلت المقبرة، جلست بين يدي ساكن القبر الخامس ، نظرت في تأمل الى مكان رأسه، قدمت له غصن الياسمين ، فرحت بحبي ، حبي الاول، شعرت به يبتسم لي..
قلت له:
- كل مساء احضر لك غصن ياسمين..لن اسمح لاي مخلوق ان يقدم لك غصن الياسمين ، انا وحدي صاحبة هذا الحق، سارمي كل الياسمين خارج المقبرة الا غصني فانه لك وستقبله مني.
بت تلك الليلة فرحة بتقديم اول غصن ياسمين لحبيبي وبصداقي الاول.
حملت صداقي في يميني وانطلقت بمعدة فارغة، تجولت في شوارع المدينة كلها، ابحث عن طعام، كل الطعام كان امامي لكني اريد ان انتقم منه لاني حرمت منه كثيرا..بعد تعب اشتريت ما اريد من الطعام والشراب واكلت بشراهة ، كررت الانتقام من الاكل عدوي الاول او الثاني او الخامس لا ادري فاعدائي كثر بدءا من الليل والرحيل المتواصل والصاروخ الاعمى الذي قتل ابي وامي ومرورا بدورتي الشهرية ودار الايتام والرصاصة الطائشة التي قتلت ساكن القبر الخامس والرجلين المسلحين وحبيبة ساكن القبر الخامس...
ارتفع اذان العصر ، تذكرت شريكتي في العذاب فتاة المسجد الحسيني ، توجهت اليها، راتني ولم تعرفني ، عرفتها من نظرات عينيها، كانت جميلة جدا بيضاء البشرة ، خشيت عليها وعلى جمالها، تقدمت اليها ورميت بقرش واحد في حضنها، لم تميز فقري من غناي، دعت لي بالرزق والزوج الصالح ...
قلت لها:
-انا صاحبة القرش.
قالت جاهلة معنى صاحبة القرش:
-كثر خيرك.. الله يرزقك.
قلت لها:
-الا تذكريني؟ انت اعطيتني قرشا قبل ايام.
تفحصت عيوني وتأملت حزني وقالت:
- تذكرتك.
قلت لها:
-اريد ان اعمل مثلك.
- لا تستطيعين، هذه المناطق محجوزة وخطرة.
-لكني اريد طعاما.
اظنها احست بجوعي.
قالت:
- افضل عمل لك التجوال في الشوارع ، لكن احذري اولاد الحرام والرصاص الطائش.
-الرصاص الطائش.
- نعم الرصاص الطائش .جو المدينة مليء بالرصاص الطائش وشوارعها تعج باولاد الحرام.
-وانت الا تخافين من اولاد الحرام والرصاص الطائش؟
- انا اعرف كيف اهرب من ا لرصاصة في وقتها، اما اولاد الحرام فانا اعمل مع من يحميني منهم
لم افهم مغزى كلامها لكني اردت تحذيرها مما وقع لي
- لكنك جميلة جدا وعليك خوف
- الشوارع علمتني، اصبح التشرد صنعتي
- اليس لك اهل
- لي الله!

عدت الى المقبرة احمل في يدي بضعة قروش. عدت مسرعة الى القبر الخامس.. حملت معي زادي وزوادي ، وضعته بالقرب من القبر، طرحت عليه السلام، عدت مشتاقة للجلوس عند رأسه .
اخبرته بوصية زميلتي(احذري اولاد الحرام والرصاص الطائش..المدينة مليئة بهم.).
-12-
بدأت نفسي تقذف بامعائي من نفسي، جسدي الصغير اصبح لا يتحمل معدتي ، كل شيء في داخلي اصبح في متاهة .
شعرت بأني لست انا، وان حالتي تغيرت، جسدي يذوي ويهرب الى الموت، لكن المقبرة تخافني وقد تهرب مني او قد تتنكر لي لاني لم اعد بكرا، وهذا الامر يعد جريمة، جريمة نكراء حتى لو كان الامر ليس بيدي فهو امر استحق عليه الموت، فالعار لا ينظفه ولا يغسله الا الموت.
شئ ما في داخلي يتكون، شئ ما في بطني يتخلق، يأكل من جسدي ليكبر ، شئ في بطني بدأ يطاردني واطارده، يحاول ان يشعرني ويجعلني احس به
-( انا موجود )
لم تكن لي خبرة في هذا الامر ، فامي لم ترزق باطفال غيري ، كان ابي يمازح امي ويقول لها:
- اذا لم تحبلي بولد سأتزوج عليك.
- لكن امي تعلم ان الامر ليس بيدها.
كانت تقول له:
- الامر بيد الله وحده.
اذكر ونحن في دار ايواء الايتام، وكان الوقت عيد الام، حفظونا مسرحية ، المسرحية عن الام، وكلنا بلا امهات، لفوا بطن احدى الفتيات ومثلت دور الام التي يقتلها طفلها عند الولادة.
الطفل يقتل امه ، وهل من الممكن ان تقتل الام طفلها خاصة اذا كان الطفل بلا اب، ومن الاغتصاب
( انها جريمة يحاسب عليها الشرف).
قلت لنفسي الامارة بالسوء وشيطاني الوسواس الخناس.
انها جريمة ،جريمة ان اتخلى عن شريكي في انفاسي ودمي ولحمي ودموعي.
لكن بقاءه في بطني الصغيرة جريمة كبرى وجريمة بشعة لن يغفرها احد، حتى انت ايها الساكن في بطني ورحمي لن تغفر لي، وربما تقتلني يوما ما لاني لم احفظ شرفك ، شرف امك.
قد تفهمني الان يا طفلي الذي اظن انني لن اراه، لكنك بعد ان تكبر لن تفهمني وعيون الناس تناديك سرا وعلانية:
- ( ابن الحرام.
اود لو اقبلك قبل ان اقتلك، أود لو اضمك قبل ان اسلمك للموت.
لا تنظر الي، لا اريد ان تراني عيناك الجميلتان كعيون امك .
اني ارى رأي العين اني اذبحك.
هل تقول لي:
يا امي افعلي ما تؤمرين ستجدينني ان شاء الله من الصابرين.
اني كهاجر اسكن في واد غير ذي زرع ، اسكن في مقبرة وفي احشائي وليدي الذي تحدثني نفسي ان اذبحه ،، اني ارى في اليقظة اني اذبحك.
-يا امي افعلي ما تؤمرين ستجدينني ان شاء الله من الصابرين.
لكن الشيطان الذي يأمرني با بني وليس الله.
انا في مقبرة غير ذات زرع ولا ناس ولا حياة. مقبرة ليس بها حسيس ولا انيس ولا زرع ولا ضرع.
حاولت قتله وهو موجه وجهه للارض وليس للسماء، جبينه ملاصق للارض.
اصبح يوما عن يوم يكبر واصبحت ساعة عن ساعة ابحث عن ذبح عظيم افدي به نفسي واتخلص به من عاري.
عاري يعني جنيني وحملي يعني فضيحتي ونقل ما جرى في تلك الليلة امام كل المشاهدين في بث حي ومباشر.
آه يا جنيني
لو انك تختار طريق الموت وحدك، لو انك في ليلة من ليالي العتمة التي اعيشها تلتف حول المقبرة كالعاشقين تلتف يد احدهم على خصر الاخر، لو انك في ليلة ليلاء تنزل طوعا وتقتلني معك حفاظا على شرفك.
اتكون يا طفلي غاضبا مني؟ هل انت غاضب مني . امد يدي على بطني الصغير فأشعر ان غثيان الارض ، غثيان باطن الارض يحاول ان يقذفني حمما بركانية الى الاسفل.
انه الغثيان
احس به يقلب امعائي ، استنجد بك يا طفلي الذي لم تخلق عيونه، الحمد لله انك بلا عيون ، مازلت عديم الرؤيا فلن تراني وانا امد يدي الى رقبتك واخنق فيك الحياة.
اصبحت يا طفلي الذي تفرح به كل الامهات الا انا، اصبحت مصدر عذابي بدلا من ان تكون ثمرة لذاتي وحبي.
هل اصبحت مجنونة؟
كيف اكون اما يمتلئ قلبي بالحب والحنان وعاطفة الامومة واكون في نفس الوقت سببا في موتك وقتلك.
جاء الشهر الثاني، اوعلى راي النساء الحوامل، دخلت الشهر الثاني من غثياني جاء بالفرج، صحوت على نفسي التي تكاد تموت حزنا على خطئ لم ترتكبه واذ بقطعة لحم صغيرة تخرج من احشائي، لم تكن دورتي الشهرية التي انقطعت منذ تلك الليلة التي اغتصبت فيها طفولتي،كانت دماء كثيرة، وكانت قطعة لحم لم تتكون بعد، عيون واذان وايدي، اذن لم تسمع وتعشق قبل العين والعين اذا سمعت دقات القلب تكلمت، تكلمت قتلا او حبا.
كان الفرج في هذا اللحم ، وبكيت كثيرا بكيت لان الله خلصني من عار كان سيطوقني مدى الحياة وبكيت كما النساء تبكي حزنا على موت جنينها.
حفرت لجنيني قبرا باصابعي ، حفرت القبر قرب ساكن القبر الخامس، حفرت قبرا صغيرا بالقرب من مكاني ليظل امام نظري ويؤنسني في وحدتي ووحشتي ويؤنس المقبرة مني.
لففته بخرقة بالية، الفقراء ليس لهم الا الخرق البالية، لففته ودسسته في التراب وأدا، وقرات على روحه التي لم ينفخها الله فيه قراءة الفاتحة ، ترى الى من ذهبت روحه وفي جسد من حلت.
**

-13-
ما ان اقترب موعد تخرجنا من كلية الطب حتى شعرت بان العالم يوشك ان ينتهي، فانت عائد الى حارتك القبلية وانا عائدة الى مخيمي..سنفترق، وربما يكون فراقا ابديا.
قلت لي:
-سنلتقي وسيكون لقاءنا ابديا.
-كلما كان يأتي يوم اربعاء كان قلبي يصاب بالاسى ورأسي بالدوار فالجامعة ستغلق ابوابها حتى صباح السبت العطلة الاسبوعية.
كنت اغار من حارتك القبلية ومن شوارعها التي ستسرقك مني اياما قليلة.
لكني ما ان ابدأ معك حتى تنتهي قصتي.
ذاكرتي لا تستطيع ان تنسى ما فيها من خراب ودمار.. لم ار بحياتي جزءا يخرب على نفسه كما تفعل ذاكرتي معي.
ما ان ابدأ بحبك حتى تبدأ بتذكيري بطفولتي، لكنها محقة ، ا لى متى سيبقى السر غامضا، وهل هذا شئ يخفى في ليل الوجع.
يا وجعي..
يا وجعي من سنين تركتها منذ زمن او تركتني اعيش اياما لياليها طوال.
يا المي من ذاكرتي الكبيرة والمريضة بالذكريات.
سوف يعرف كل شئ.
لماذا لا اخبره؟ لماذا لا اترك حبه لي في قلبي واحشره في ذاكرتي حشرا..لكني لعبت لعبة ويجب ان اتممها.
ذاكرتي تأمرني بأخبارك بكل شئ وقلبي يتمهلني للحظات.
صراع ما بين ذاكرتي الواشية وقلبي المثقل بهموم الدنيا ، ليلها ونهارها.
وقرر قلبي:
-اخبره عند الزواج.
وقالت ذاكرتي الواشية:
-الان..الان وليس غدا، الحب صدق.
لكني قلبي اصر على موقفه.
-واذا لم يحصل زواج..هل يعلم كل من يعرفها بانها ليست بكرا؟ثم ما ذنبها.
ردت عليه ذاكرتي :
- وما ذنب الاخرين ؟ ما هو ذنبه حتى يظل في جهله ليوم الزواج..يجب ان يعرف من الان.
- انت الذاكرة تختارين المكان وانا القلب اقرر الزمان.
-اذا كنت تصر فالمكان المقبرة.
- والزمان ليلة الدخلة.
وهكذا لم اختر الزمان او المكان، كما انني لم اختر مصير طفولتي، منذ البداية حدد قلبي وذاكرتي كل شئ وتركوني اعيش صراعا مع عقلي الذي لم يتدخل في هذه المشكلة ، لذلك طلبت منك ان تعدني بزيارة المقبرة ليلة الدخلة وقبل كل شئ.
وقتها استغربت الطلب وقلت:
- المقبرة؟ انت تمزحين.
-انا جادة ، في المقبرة بدأت حياتي الاولى واحب ان تبدأ حياتي الثانية معك من المقبرة..
-كنت اظنك مازحة.
- ذاكرتي لا تعرف الا الوشاية
-اتذكر يوم جئتني في شارع الاداب وانا ابكي حتى اصبحت عيوني حمراء؟
-كنت توشكين على الموت
- كنت قادمة من المقبرة.
- اتزورين القبور صباحا؟!
- صحوت على نفسي عند الفجر مشتاقة لنفسي. وعند القبر اجد نفسي. صليت الفجر وقرأت قرآنا وذهبت .
- اتشتاقين لساكن القبر الخامس؟
- لا.. انت تعرف انك وحدك. ولكني شعرت بقبر ابي يناديني.
- وهل تعرفين اين قبر ابيك؟
-كل القبور قبر ابي وقبر امي.
- لكن لماذا كنت تبكين؟ كنت كلما زرت المقبرة تشعرين بالسعادة . لما هذه المرة تختلف؟
- لم اخبرك وقتها..كذبت باشتياقي لابي وامي.
لكن ذاكرتي كانت تحاصرني، هذه المرة اكثر من أي مرة سبقت،
ما ان دخلت المقبرة وجلست اقرأ القرآن على ارواح جيراني حتى تذكرت ذلك المساء اللعين.
رأيت الرجلين يدخلان علي مرة اخرى.لم يدخل احد. لكن ذاكرتي حثتني على ذلك واجبرتني.
لم استطع المكوث هناك اكثر من عشر دقائق مع اني كنت اجلس لساعات..
خرجت من المقبرة باكية مسرعة اصارع ذاكرتي واذكرها اني لن استجيب لها الان ، لن اسمح لها بأن تحطم حياتي وحبي وتطردك من حياتي انا احبك ولن اسمح لائ شئ ان يبعدك عني حتى لو كانت ذاكرتي هي عدوي فساقاتلها بشراسة.
وماذنبي حتى اتحمل اخطاء الاخرين.
ترى لو كان ابي على قيد الحياة هل كان قتلني تبيضا لشرف العائلة؟
يقتل طلفة اغتصبت في عتمة الليل، طفلة ضعيفة لا حول لها ولا قوة.. ليت ابي كان على قيد الحياة ووأدني خيرا لي من ان اصارع الموت كل يوم وأوأد في كل ذكرى.
كل لحظة اتخيل فيها الانسان الذي يملك قلبي ونور عيني يبتعد عني ويهجرني بلا ذنب لي اشعر بان الحب هو الذي سيقوم بوأدي.
ليت ابي قتلني ورفع راية بيضاء من اجل شرف العائلة.
-14-
كانت المقبرة خيرا الف مرة من المخيم.
وجدنا في انتظارنا مئات الخيام ، الكثير منها ما يقف على اعمدة ومسكونة وبعضها يحتاج لنا كي نسكنه، يحتاج للمشردين والمطرودين بقوة السلاح من ارضهم ومن مساكنهم.
يقول ابي بعد لا احد يحب امريكيا :
( هربنا الى المخيم بمرارة اللجوء ووجع الضلوع. كنا نسير خطواتنا بتثاقل وانشغال الفكر ، تفكير مرافق لصمت القبور وهدير الحياة على مسامع القتلى.
دخلنا ازقة القهراذلاء مطأطئي الهامات والرؤس والامان المفقود والحرمان الكثير الذي سكن دروب وزواريب المخيم وازقته الملوثة بروائح القتل والدمار والاغتصاب والمياه العادمة.
كان المخيم يعاني من وضع شديد التعقيد .)
وقال ابي في دفتره:
-( اصعب الدمع التي تظل محبوسة في القلب وتمنع الحلق من النطق بها، تظل على شكل قهر وخوف وذهول. في المخيم الذي اسميناه اولا العودة، وحتى لا نموت قهرا ونسيانا نحتفظ باشياء من قرانا ومدننا . اشياء حملناها من الوطن.
كل عجوز من عجائز فلسطين تحمل في صدرها صرة فيها حبة زيتون مجففة قطفتها من زيتونة الدار ومفتاح الدار. ويحفظن الاغنيات والعتابا.حملت معي حبة ليمون مجففة من ليمون يافا الجميلة.)
وقال ابي:
-(بعد نزوحنا عام 1948 ، يوم نزوح الاف الفلسطينين في اتجاه جنين من يافا واكثر من 25 قرية او بلدة محيطة بها مثل الخضيرة وزرعين ونورس والمزار والكفرين وصبارين والمنسي والضبية وحيفا وقيسارية والطيرة والطنطورة وغيرها من المدن التي هاجمتها العصابات الصهيونية لم تتسع المدينة لنا.
جنين القسام والتي تشرف على البقعة عينها ا لتي كانت يوما مدينة كنعانية قديمة تحمل اسم عين جنيم أي عين الجنائن لكثرة الحدائق التي كانت تحيط بها من جميع انحائها ..لم تتسع جنين للالاف المشردة المطرودة من بيوتها والمقلوعة من ارضها بقوة السلاح والقتل والاغتصاب.
جنين حلقة وصل في الطريق القديمة بين نابلس والعفولة وبيسان وهي نقطة مواصلات الطرق المتجهة الى القدس والناصرة ونابلس وحيفا.
تشرف جنين على مرج ابن عامر ويقوم قسم كبير من بناياتها على تل عز الدين الواقع شرقي المدينة.
يقال ان السيد المسيح عليه السلام مر بجنين اكثر من مرة وهو في طريقه من الناصرة الى القدس ويقال انه شفى باذن الله اكثر من عشرة من المجذوبين في قرية برقين شرقي المدينة.
خان جنين او فندقها بناه في عهد المماليك الامير طامار الدوادار وانشأ فيه سبيلا وحماما وعدة حوانيت يباع فيها ما يحتاج اليه المسافر وينتفع به.)
اتدري اني شعرت بنفسي وانا اقرأ ما كتبه ابي في دفاتره عن جنين العجوز التي دفنت كل اهل جنين عندما انتشر الوباء في مصر والشام وقضى على سكان جنين ولم يبق منها الا امرأة عجوزا.
جنين..تطل من الشمال على نابلس
ويطل من قلبها المسجد الكبير الذي اقامته فاطمة خاتون بنت السلطان الاشرف قنصوة الغوري ، وبين اضلع جنين تنتشر بعض الابار المنحوتة في الصخر تسقي اهلها وحدائقها الجميلة منذ الاف السنين الفلسطينية والكنعانية.
الى الشمال من المدينة ذات الجنائن فهناك البرج القديم ذو القاعدة المائلة يطل على كل حدائق جنين الجميلة.
والمخيم الذي دخلته عائلة جدي يحط في الجانب الغربي من مدينة جنين على اطراف مرج ابن عامر وتحيط به المرتفعات ويمر بوادي الجدي والتي تمتلئ بالسكان وتعرف باسم الساحل.
مخيم جنين قامت وكالة الغوث الاونوروا ببناءه ضمن الحدود البلدية للمدينة في جانبها الغربي على تلة صخرية تتحدر الى اطراف مرج ابن عامر.
وقال ابي:
(غيرنا اسم المخيم عدة مرات، كان اولا وبداية النزوح مخيم العودة. قالوا لنا ستعودون قريبا وسمي بعد ان قطعنا الامل بالعودة مخيم المحطة نسبة الى محطة تركية للسكك الحديدية كان موقعها في اسفل المخيم..)0
وقال ابي:
(انحشر الالاف من النازحين في جزء صغير من الارض لم يزد عن الكيلو مترا مربعا، تداخلت فيه الاكواخ المشيدة من الطين بسقوفها من الزنك مع اكواخ من الاسمنت كان يوسعها الاهالي مع مرور السنين باضافة غرف وملحقات تأكل من الطريق الضيقة جدا والازقة لتلبي متطلبات عائلات تكبر في عدد افرادها ليصل احيانا نحو عشرين شخصا محشورين في غرفتين صغيرتين.
وقال ابي:
-( سكنا مخيم جنين لالتصاقه واقترابه من الاراضي ا لمحتلة(48) وجعلت علاقة اهل المخيم واقاربهم على الضفة الاخرى من تلك الاراضي هي الاوثق وحركتهم في اتجاه فلسطين هو الاسهل ويستطيعون من مخيمهم ان يروا القرى التي اجبروا على مغادرتها وصارت داخل الكيان الصهيوني المصطنع.)
وقال ابي:
-( كنا نلاحق يافا من على مرتفعات جنين ونعد بويتها ونميزها ليلا من انوار بيوتها المشرقة بنجوم ربها.
كانت يافا بداية البشرية اليها ارسل نبي الله نوح عليه السلام ابنه يافت، وحفظت يافا الجنس البشري(40) الف عاما فكانت ام الخيرات التي تعطي الثمار للقادمين اليها من وراء النهر العظيم..النهر الذي بشر نوح عليه السلام ابنه يافت بنبي عظيم يتعمد فيه.
قال سيدنا نوح لابنه :
- اذهب الى تلك البلدة الجميلة ببساتينها ، اذهب الى نجمة البحر المتوسط وعروس هذه الارض.
- وقال نوح عليه السلام لابنه يافت:
- - من وراء هذا النهر العظيم ..نهر الاردن، الذي سيتعمد فيه نبي يخلقه الله من روحه تدخل الى نجمة البحر المدينة الجميلة وتطلق فيها نسلك..ادخل يافا واجعلها تحتضن الجنس البشري.
سأل يافت اباه النبي نوح:
-يا ابي هل سكنها احد قبلي؟
قال نبي الله نوح عليه السلام:
-يا يافت..ادخلها ومن بعدك يأتي اليها قوم هم كنعانيون وهي لهم احفظها من الغرباء لتحفظ نسلك فيها.
وقال ابي:
( كان الفراعنة يتمنون احتلالها فحقق الفرعون تحتمس الثالث امنيتهم واحتلها ونقش اسمها على معبد الكرنك).
يافا كانت ملتقى الحضارات الفرعونية والفنيقية والاغريقية وارتبطت بكل الحضارات والاساطير الا اليهودية فانها منهم براء.
كانت يافا الاميرة(اندرو ميدا ) المنحوته على صخرة في ميناء يافا. واصبحت يافا اسطورة عشتاروت الهة الفنيقين التي اختارت يافا على شكل امرأة نصفها الاسفل من السمك.
يافا احتضنت نبي الله يونس والحوت الذي قذفه الى الشاطئ شمال يافا بعد ان ابتلعه وحفظه في جوفه مدة ثلاثة ايام.
كان ياحتير والى يافا يتابع ارسال رسائل الولاء والطاعة الى الفرعون تحتمس الثالث فرعون مصر في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
وكتب الفرعون تحتمس الثالث الى والي يافا ياحتير:
- وصلنا كتابكم من نجمة البحر المتوسط يافا ، قرأناه وبجانبنا الامراء والاميرات فتنهدوا جميعا اشتياقا وحسرة على برتقال يافا وليمونها..عند وصول كتابنا يكون موسم الرتقال حل، ارسل ما تستطيع من برتقال يافاوليمونها بالسرعة الممكنة ليستمتع بأكله الامراء والاميرات ويكون شفاء لهم انهم في اشتياق شديد لبرتقال يافا.
تحيات الفرعون الاعظم لمدينة القمح والخيرات.
قرأ ياحتير كتاب الفرعون المصري على حاشيته وكان ما يزال بينهم وبين موسم البرتقال شهر كامل، نظر في وجوهمم متألما وقال:
- مازال موسم البرتقال بعيدا عنا.
قال وزير من وزرائه:
-كيف لنا ان نؤمن ما يريده الفرعون وبالسرعة المطلوبة والوقت المحدد؟
قال ياحتير:
-ارشدوني اكراما للاله اشمون.
قال الوزير:
- ان برتقال يافا هو الوحيد الذي لم يغرق من الاشجار في الطوفان.
قال احد الخدم بعد ان سكب في كأس ياحتير عصير البرتقال:
- مولاي الحاكم هل تسمح لي بكلمة؟
قال يا حتير:
- تكلم عل في كلامك ما يكون فيه الحل.
قال الخادم:
-مولاي ..ان بيوت يافا لايخلو منها البرتقال.
تبسم ياحتير وقال :
-اجمعوا ما تستطيعون حمله للفرعون.
يقول ابي ان جده قال له عن الاجداد:
-ان اهالي يافا جمعوا في ساعة اكثر من مائة صندوق برتقال وليمون وصلت الى الفرعون خلال اسبوع.
- كتب ابي:
- ( ان اجمل ما في يافا مساجدها الكثيرة والتي تمثل طرازا متميزا من البناء الاسلامي ،واشهرها جامع الطابية الذي يقع في البلدة القديمة ، بجانب الفنار وهو اقدم مساجد يافا وجامع الشيخ رسلان في يافا القديمة وجامع حسن باشا القريب من الميناء وجامع البحر والجامع الكبير او جامع ابو تيون الذي يقع امام الساحة العامة التي اقيم عليها برج الساعة وجامع الدباغ وجامع العجمي الذي اقيم في حي العجمي الواقع جنوب يافا.
وفي وسط يافا يقف برج الساعة الذي اقيم عام 1906 في ذكرى اليوبيل للسلطان العثماني عبد الحميد الثاني والسرايا وهي مركز الوالي العثماني والذي يجاور برج الساعة وتتكئ على القلعة معلنة الوحدة الوطنية كنيسة دير القديس بطرس.
يافا مليئة بالاحياء الجميلة المتجاورة كحي المنشية وحي العجمي وال فنار وسكنة درويش وتل الريش وكرم التوت وكرم الصوان وحي ابو كبير وحي النزهة وترتبط هذه الاحياء باسواق الصلاحي والدير.
-15-
جلس قادة الهاغانا والبالماخ في مقر القيادة باشراف الوكالة اليهودية حول طاولة خشبية مسروقة صنعها نجار عربي وتداولوا بينهم بحضور كؤوس الوسكي ضرورة احتلال القرىالعربية المحيطة بمدينة يافا قبل15 ايار 1948
وقال بادين بعد ان افرغ كأسه:
- لا بد من الضرب بيد من حديد وارهاب العرب قبل رحيل القوات البريطانية حتى يسهل علينا احتلال يافا.
سأل( دان ايفن):
- ولماذا لا تحتل قواتنا مدينة يافا؟
نظر اليه ( يادين ) وقال:
- لا نريد اثارة اية ضجة في المحافل الدولية لان يافا جزء من الدولة العربية الفلسطينية وهذا ايها العزيز مثبت بقرار التقسيم.
وقال دان ايفين:
- اقترح ان يكون احتلال مدينة يافا في اول ايام عيد الفصح اليهودي.
وخرج الجميع واتجهوا الى مناحيم بيغن قائد الارغون وابلغوه بقرار الهاغانا والبالماخ احتلال القرى العربية المحيطة بمدينة يافا قبل 15 ايار 1948.
ذات صباح ربيعي وقف بيغن بين قوات عصابة الارغون التي تزيد عن(1000) جندي تحيط بهم (100) الية عسكرية استولوا عليها من معسكر الجيش البريطاني في رامات.
نظر بيغن الى وجوه الجنود المليئة بالحقد والغدر والتي لا ترقب في فلسطيني الا ولا ذمة وقال:
- ان احتلال مدينة يافا ضروري لاستقلال ارض اسرائيل ، ارض ابائنا واجدادنا والارض التي منحنا اياها الرب. ان فيها وخلفها عدوا يريد تدميركم وسحقكم فاسحقوه ولا ترحموه ، انزعوا الشفقة من قلوبكم ، كونوا اشداء قساة القلوب، ولا تبذروا بالذخيرة ، فان ابناءكم واجيال شعب اسرائيل تنتظر بطولاتكم ونجاحاتكم وادعوا الرب لنصركم وانشدوا معا نشيد الارغون.
قال ابي:
- ( في صباح يوم 26/4/ 48 بدأ الهجوم الصهيوني على مدينة يافا ، قصفوا المدينة بقنانل مدافع الهاون، كانت كالمطر تنزل على بيوت يافا ، احتلت عصابة الارغون القسم الغربي من يافا وقطع الطريق الشمالي الذي يربط قلب المدينة بحي المنشية والقسم الجنوبي منها.
وقال ابي:
- جاء احد الجيران وكان في بيارته. كان يرتجف من شدة الخوف والتعب وصاح بنا:
-العصابات الصهيونية بدأت بالهجوم من الجهة الشمالية، متجهة الى قلب المدينة.
وقال:
- هدموا المنازل على ساكنيها، القتلى بالعشرات ولا يستطيع احد مساعدتهم.
وقال ابي:
- صاحوا في المساجد لحماية يافا، وكان هناك مقاومة شديدة من السكان منعت العصابات الصهيوينية من دخول البلدة ..لكن اسلحة العرب ضعيفة جدا ولا تصل الى عدوها.
ظلت العصابات الصهيونية تحاصر المدينة لمدة يومين وفي الساعة الرابعة من عصر يوم 28/نيسان 48 قامت قوات الارغون بهجوم عنيف بقيادة (جدعون فاغلين) نسفت خلاله عشرات البيوت وما ان طلع فجر اليوم الثاني حتى احتلت عصابة الارغون المنطقة التي فشلت باحتلالها بالسابق ، احتلتها حتى الساحل باستثناء جامع حسن باشا والمنطقة المحيطة حيث تمركز فيه عشرون شابا من اهل يافا بقيادة( على سامبو) .
قال لهم على سامبو:
- اسلحتنا لا تصلح للحروب لكنها تستطيع ان توقف الخنازير من تدمير حداق يافا.
ما ان اكمل على سامبو عبارته حتى وجهت عصابة الارغون جميع ضرباتها الصاروخية والمدفعية باتجاه الجامع والمنطقة المحيطة به وظل سامبو ورفاقه في صمودهم حتى استشهدوا.
يقول ابي:
- احتل الصهاينة المدينة ودخلوا البيوت واغتصبوا النساء وقتلوا ما يقارب مئة رجل وعشرين طفلا وخمسا وعشرين امرأة نصفهن حوامل بقروا بطونهن ونهبوا البيوت ونقلوا الاثاث الى تل ابيت وكر اللصوص.
وقال ابي:
(في مساء 13ايار 48 كان اخر جندي بريطاني قد غادر المنطقة كلها وفي نفس الوقت اخذت القوات الصهيونية مدينة يافا كلها بعد ان طردت معظم السكان بامر من دافيد بن غوريون وانشدت العصابات الصهيونية النشيد الصهيوني.)
وقال ابي:
-كان البحر يعج بالسفن والزوارق لترحيل اهالي يافا وغادرناها نحن الى جنين هربا بارواحنا واهلنا املا في العودرة يوما اليها.
-16-
خمسون عاما مضت ولا نزال نعيش الغربة والبعد عن ارضنا وبيوتنا، خمسون عاما ضاعت هباء الا اننا ما نزال مصرين على حقنا في العودة الى ارضنا، شتات بريطاني اولا وصهيوني ثانيا .
هناك.. كان لي بيت وارض وهنا بلا بيت بلا ارض، هناك كان لي ماض وانا هنا بلا ماض ، لكني سأعود لان شمس مدينتي ما زالت نائمة في البحر وربما لن نعود ما دمنا نغط على اعتاب المقابر.
هل تسمح لي ..سأتمشى حتى نهاية المقبرة ثم اعود اليك.لن اطيل عليك.
-الافضل ان نسير معا..
الحرب، بل الحروب والقتل علمتني اهمية المكان بالنسبة للانسان، اقول لك هذا الكلام لانني بلا مكان وكلما اردت ان امتلك مكانا كنت افقد معها الامكنة الاخرى.
هل تعرف متى تشعر وتحس وتكتشف المكان واهميته؟ عندما تفقده، فقدان المكان يثير في النفس الاشجان وتشعرك بالغربة.
المكان بالنسبة لطفلة عرفت مكانها الاول بين القبور عندما هربت من يهود ولجأت بعد هروبها الثاني من دار الايتام الى المقبرة لتكون مكانها وحنينها، ولتتحول المقبرة من مكان موحش يخاف منه الكبار الى مكان للحنين والسكينة.
المخيمات الفلسطينة سواء تلك المنثورة خارج الوطن او تلك المتجسدة داخل الوطن كالاوتاد تجد اصالة التاريخ الفلسطيني وخلاصته، فاللجوء هناك له معنى مختلف عن كل النظريات السياسيةوالاجتماعية التي تزخر بها القضية الفلسطينية. او تلك الشعارات المعلقة على الجدران تعلن الوفاء لقضية اللاجئين، وللجوء ايضا معنى مختلف عن تلك القرارات الدولية التي يرتفع فوقها الغبار بعد طول زمن.
الفقر المتراكم مع طول الزمن وكثرة العيال وتعاظم المسؤوليات يزيد من صلابة اللاجئ ويجعل ايمانه قويا ونقيا وخاليا من كل الاطماع ولا تؤثر به كل المغريات.
اما الحكايات ، الحكايات المؤلمة احيانا كثيرة ، والذكريات لدى كل لاجئ تشدك شدا نحو الثابت والاصيل ، فارض 48 التي غدت لدى البعض ارضا اخرى هي تعني للاجئين الوجود كله.
فنحن اللاجئين لا نعتبرها حالة تراثية مطلوبا منا ان نحفظ اسماءها او نبكي على اطلالها او نتحدث عن مأثرها ، هي لدينا الوطن أي الماء والهواء الذي بدونه يموت الانسان ويبقى بلا معنى.
هذا قبر جديد لطفل يبلغ من العمر عشرة اعوام
- او طفلة تبلغ من العمر عشر سنين
- الاطفال يموتون خلاصا من عذابات الدنيا
- سن العشر سنوات يؤلمك
- كل السنين تؤلمني
-كان ابوك ماهرا في كتابة التاريخ
- كان ابي يحب فلسطين
- وانت الم تكتبي شيئا في مذكراتك
- ذاكرتي مريضة وواسعة
- الم تتعلمي من والدك كتابة الاحداث.
-تعلمت منه الحزن على فلسطين الضائعة الى الابد
- انت متشائمة
-انا احب ارضي.
- كل الناس تحب ارضها
- هم يعتبرونها تراثا ويعلقونه على الجدران ويتغنون به في اشعارهم.
- التراث ملك لنا
- وقتلنا واغتصابنا، قتلوا عشرات المئات وشردوا الملايين واغتصبوا النساء وبقروا بطون الحوامل ،
- لا احد ينسى الدماء
- لكنها اصبحت تراثا
- التراث حالة عربي
كنت صغيرة جدا عندما دخل الصهاينة ارضي، كنا في المخيم نعيش على امل العودة ، وكنا نرى بياراتنا من مرتفعات جنين.
دخلت الدبابات الاسرائيلية الى المخيم ، وبعد ان احتلت فلسطين كلها بدأوا بتصفية الثوار ، بقايا الثوار.
سمعنا خارج المنزل اصواتا تتحدث العبرية، كنت انا وامي وابي، ثم دخلوا منزلنا.
كانوا في منتهى العدوانية ووجوههم مدهونة بالاصباغ والحقد ، يتحركون بعصبية وعيونهم تقطر كراهية، كنت طفلة اعيش الم الاحتلال دون تجربة، اجبروا والدي على السير امامهم وفتشوا المنزل. حطموا كل شئ ودمورا اثاث المنزل، ثم جمعونا في غرفة واحدة، لم اكن اتخيل منظر هؤلاء الصهاينة وهذا الرعب الذي يحملونه بعيونهم.
كانوا وحوشا تدعي الانسانية والادمية، كنت ابكي فتضمني امي، وكانت امي جميلة جدا.
انا ابكي والدنيا تبكي وخارج البيت نسمع دوي الانفجارات والدبابات تهدر دمارا لنا وفرحا لهم، الوقت يمر بطيئا، والناس تترقب بخوف وتنتظر الموت.
لا ادري ماذا حل بالخارج.
هكذا بدأت عملية اجتياح جنين ومخيمها، خوفا وترقبا وانتظارا.
طلبوا من ابي احضار الماء من الخزان في ساحة المنزل، كانت امي جميلة وكنت طفلة بريئة ، شعر ابي ان وراء الطلب امرا سيئا، حاول ان يرفض لكن احدهم سحبني من شعري ووضع السكين على عنقي. خرج ابي خوفا على طفلته الوحيدة وجر الاخر امي الى المطبخ تحت تهديدهم لها بقتلي.
بقيت وحيدة مع ثلاثة رجال يتغامزون، ويضحكون ويتشدقون بلغتهم الكرية، بعد قليل خرجت امي من المطبخ باكية وعليها اثار الاغتصاب ، انه الموت.
عاد ابي يحمل الماء لهم، ضحكوا عندما دخل، لم يعرف سبب ضحكاتهم، امي لم تخبر ابي، اخفت عنه اغتصابها حتى تظل في نظره نقية وله وحده، لكن ابي لو عرف عن اغتصابها كان قتلها، لم تخبره حتى لا يشعر بالذل والعار.
لكن ابي كان يعرف انهم فعلوها، بكى كثيرا، اشد شيء في الدنيا بكاء الرجال.
كنا في المخيم، استيقظنا على هدير جنازير الدبابات وناقلات الجنود واصوات الطائرات الامريكية والتي رافقها قصف مدفعي وقصف بالرشاشات والصواريخ، وكان الصهاينة منذ اللحظة الاولى حريصين على استعراض قوتهم وارهاب الاهالي .
كنا نسمع اصوات القذائف والرشاشات وحركة الاليات العشوائية، كنا نحاول تمييز المكان الذي تجري فيه اعنف المعارك، فالمواجهة كانت في كل مكان على طول الجبهات العربية ، نحن في الداخل كنا ضحايا هذه المعارك.
ايتها المقبرة الام.
كيف يمكن لطفلة لم تبلغ الحلم ان تكتب او تدون ذكرياتها وذاكرة وطنها وهي وسط اللهب او تحت سقف النار، او عند شباك الاغتصاب والاذلال.
كيف يخط قلمي كلاما صاخبا اصف فيه جنازير الدبابات الصهيونية وهي تسحق صمت الليل وعظام الاطفال الرضع.
وتحت هذا القصف والقتل خرجنا ، كنا مئات المهاجرين النازحين نبحث عن لجوء جديد ، وعندما هبطت العتمة كنا نجتاز النهر ، لا ندري الى اين نذهب ، كالبلابل المهاجرة الى مكانها القديم او الجديد، لكننا الان بلا مكان..
كنا نسير مسافات طويلة . وقطعنا النهر ، انا وابي وامي.. كان ابي يبكي كثيرا بصمت، كنت وانا محمولة على ظهره اسمع بكاءه الصامت، وكانت امي مثقلة بالحزن والوجع والقلق ، حاول ابي الطيب طمأنتها وهو يعلم ما بها، لكن كلماته لم تستطع تهدئة روع ام تكابد قلقا كبيرا على مصير طفلتها الصغيرة وزوجها المكلوم بالم الاغتصاب.
لكنها الدماء..الدماء في كل مكان.
أي دم يسيل في هذه اللحظة ، دم ممزوج بطعم الاحزان واللجوء.
**
-17-
بعد مقتل والديّ نقلت الى المخيم ذي الواح الصفيح ، بيوت صغيرة متراصة تبكي حزن ساكنيها شتاء ، يرتفع صوت بكائها عاليا فتكاد الواح الزينكو تتطاير في السماء الملبدة بالغيوم، في الصيف تتكاثر كل انواع الحشرات حيث المجاري مكشوفة في طرقات المخيم وازقته وروائح المياه العادمة تثير في النفس ذكريات بغيضة.
اما ساكنو المخيم فلا احد منهم يملك بيته، الملك لله، ارض ا لمخيم مستأجرة، كل المخيمات مستأجرة.
كنت ما ازال اعيش الحزن ، حزني على والديّ وحزني على وحدتي في هذه الدنيا..
لماذا تركاني، لماذا تركني ابي ؟ لماذا لم اكن الاول في ركوب الشاحنة او حتى بعد امي، كان يجب على ابي ، وهو الرجل ان يساعد امي اولا في ركوب الشاحنة ثم يرفعني ويسلمني لها ويلتحق بنا هو. لماذا انا اخيرا؟ اهو القدر الذي اراد لي هذه الحياة، الاعمار بيد الله، وعمري لم ينته بعد، ربما ابي عرف بحاسته السادسة ان الموت في هذه الشاحنة فاراد ان يتخلص من عار امي المغتصبة او يخلصها من عذاب الاغتصاب ويخلص نفسه من هزيمة الشرف او جريمة الشرف التي لم يستطع فعل أي شئ معها.
استقبلتني عائلة قريبة لامي ، لا ادري أي جد يربطني بهذه العائلة الطيبة، استقبلتني بالحفاوة والترحيب.
كانوا يعلمون اني اصبحت يتيمة وحيدة منذ ساعات قليلة.حاولوا التخفيف عني لكنّ احدا لا يستطيع قتل الحزن في نفسي، لقد عشعش الحزن في نفس الطفلة قبل الاوان.
كان البيت وهو الذي لا يحمل منه الا اسم بيت، كان يتكون من غرفة واحدة يسكنها اب وام وخمسة اطفال وصرت انا السادسة، كان يجاور الغرفة مطبخ وحمام، اما المطبخ فيحتوي على ابريموس كاز وعدد من الصحون وكاسات الشاي، لا يوجد للمطبخ باب.
قال قريبنا:
-كانت هذه الغرفة للنوم و للطعام وللاستحمام، لم يكن لدينا مطبخ.
ويجاور المطبخ عدد من حبات الطوب صفت فوق بعضها البعض وتم سقفها ببرميل مفتوح ، في فصل الشتاء ينزل منه المطر بشكل غزير ، كان اسمها حماما ،اما باب الحمام فهو قطعة خيش كانت معلقة من طرفيها تقي الجالس في المرحاض نظرات المارة من امام المنزل.
قال الاب:
- كان مرحاضنا اول مرحاض بني في المخيم، كان سكان المخيم يقضون حاجتهم في الخلاء وعندما توسع العمران وازدادت البيوت انتشارا ودخل الباعة ورجال الامن، اصبح من الضروري بناء المراحيض لاخفاء العورات، نحمل ابريق الماء بعد ان نملأه من البرميل وكنا نسير به مسافات طويلة لإخفاء العورة، هذا كان زمان قبل ان يصبح لنا حمام.
قالت الام:
-وضعنا له قطعة الخيش لستر الذي يجلس في الداخل بعد ان ظل لمدة شهر بلا باب.
مضت الشهور الثلاثة الاولى ونحن في عطلة مدرسية ، كان الشهر الاول مر المذاق على نفسي ،فقدان ابي وامي وعزلتي وهجراني مدرستي .
بعد شهرين ستفتح ابواب المدارس وسأذهب الى مدرسة الوكالة.
هذا ما اخبرني به قريبنا، لن التقي بصديقاتي وزميلات صفي ومعلماتي الفاضلات ومديرتي الفاضلة.
في ليلة صيفية زرقاء سماؤها ، اصبت بالارق ، لم استطع النوم ، كنت اعد الخراف واعد شعر رأسي لكني لم استطع النوم ، كنت انام في زاوية الغرفة ويفصلني عن فراش الاب والام الاولاد الصغار ، حاولت تغيير نومي من جانبي الايمن الى جانبي الايسر والاستلقاء على ظهري لكني لم اكن افلح في اجتذاب النوم الى عيوني وطرد الارق منها، اردت ان انهض من الفراش فمنعني صوت الزوجة تهمس في اذن زوجها وتناجيه بدلال:
- حبيبي هل نمت؟ استيقظ.
لكنه كان يغفو تعبا.
حاولت ايقاظه فتمنع بحجة الاولاد والضيفة.
قالت له:
- انني منذ اسبوع وانا انتظرك وانت تعود متعبا فترمي بجسدك على الفراش دون ان تتحرك.
قال لها:
- انه العمل، فانا اعمل اكثر من عشر ساعات من اجل تأمين لقمة الخبز لك وللاولاد.
قالت له:
-لكني لي حق كزوجة.
قال لها:
- سيصحو الاولاد.
لكني غير قادرة على التحمل وانا مشتاقة لك كثيرا.
-غدا اتأخر في الصباح وعندما يخرج الاولاد للعمل ربما استطعنا فعل شيء.
لكني كنت في الصباح حاضرة وكان الاطفال ولقمة الخبز التي تنتظر الزوج والتي اجبرته على الذهاب الى العمل قبل طلوع الشمس.
في اواخر الشهر الثاني من وجودي في المخيم صحوت على بكاء احد اطفال البيت المجاور لبيتنا، نهضت مذعورة ، ظننته احد ابناء اقاربي، لكني لم اجد الزوجة في مخدعها، فتحت الباب وما ان اطل رأسي خارجا حتى رأيت رجلا يخرج من الحمام مسرعا، حسبته اولا لصا ثم فكرت ماذا يسرق اللص ومن الحمام، ثم ظننته احد الجيران ويحتاج الى مرحاض فدخل مرحاض اقاربي، لكني بعد قليل رأيت قريبتي تخرج من نفس الحمام فدخلت مسرعة الى فراشي وظلت عيوني مستيقظة، دخلت ودست جسدها قرب زوجها الذي يغط تعبا في نومه ، رأيت في عينيها نشوة لم تكن موجودة من قبل ، رفعت الغطاء الى رأسها وادارت ظهرها لزوجها وغطت في نوم عميق.
لماذا تذهب قريبتي الى المرحاض وتلتقي الرجل؟ هل يتناوبون او يصطفون على الدور لدخول المرحاض؟ لكن الامر يتكرر كل ليلة تقريبا.
لو كان الامر قضاء حاجة فانه يكون يوما او مرة او مرتين ، لكن الامر يتكرر ومع من مع خالتي والشاب نفسه فقط.
وقتها لم اسأل نفسي من المخطئ , لكني ادركت امر المرحاض وفهمت ان هناك شيئا خاطئا في المرحاض ولو بصورة طفولية ، لم يكن اغتصابا كما فعل اليهود بأمي في المطبخ.
اكتشفت ان قريبتي تلتقي ابن المخيم والذي يأتي اليها في منتصف الليل ، لكن رائحة المرحاض كريهة، وكذلك رائحة المقبرة والدورة الشهرية لطفلة في سنوات البلوغ الاولى كريهة، انه الجنس الذي لا يرحم ولا يعرف رائحة او لونا او طعما.
في احدى الليالي المظلمة تتبعت قريبتي في رحلتها الليلية الى المرحاض
في نهاية الشهر الثالث شعرت انني احتل مكانا غير مكاني واني ربما كنت سببا في ذهاب قريبتي المتكرر الى المرحاض في منتصف الليل، فانا اصبحت ثقلا فوق اثقال الرجل الذي يعمل ليلا نهارا من اجل لقمة خبز يسد بها رمق ثمانية افواه تشعر دائما بالجوع وتبحث عن الطعام.
في ختام الشهر الثالث طلبت من قريبي ان يذهب بي الى دار ايواء الايتام.
قال لي:
-هل اساء لك احد؟
- لا
- اذا لماذا تريدين مغادرة منزلنا.
قالت الزوجة:
- لم نفرق بينك وبين اطفالنا.
شعرت اني ثقيلة ظل، الفقر وخمسة اطفال وانا السادسة ومكان ضيق وفقر شديد.
**
-18-
مساء اربعاء ارعن، جلست بين القبرين، قبر جنيني الحبيب على يميني وقبر ساكن القبر الخامس على يساري. مساء الاربعاء هذا اختلط فيه صوت الرصاص باصوات الافراح، كان بالقرب من المقبرة عرس، كانت تمتزج اصوات الزغاريد باصوات الرصاص، رصاص ا لفرح والرصاص الطائش ، كنت اسند ظهري الى القبر، القبر الخامس ، واتوجه بوجهتي نحو قبر جنيني، احاول ان اغفو، مازال هناك وقت على اقبال الليل، كان المؤذن رفع اذان المغرب، دخل المصلون الى مساجدهم وخرجوا وانا احاول النوم هربا من هم المساء وليله الموحش.
كان لي جاران في المقبرة، طائران جميلان يحطان على فنن على احدى اشجار المقبرة، للمقبرة سوران سور اسمنتى يحيط بها كالسوار وسور داخلي اخضر يزينها ويظلل على قبور ساكنيها باشجار غير مثمرة.
سألت الطائر يوما ذا برودة:
- ايها الطائر الجميل مكانك ليس بالمقبرة ، لماذا تسكن المقبرة وعمان مليئة بالاشجار؟ اشجار الياسمين والحور والسرو والصنوبر، اشجار عمان جميلة كنسائها.
فهمت من اطالة اقامة الطير في المقبرة ان الشوارع غير امنة من الرصاص الطائش، فالطيور تخشى القنص فتلجأ الى المقبرة حيث الهدوء والامان ولان احدا لن يدخلها بحثا عن طائر يصيده.
لكن الرجلين دخلا المقبرة عندما كنت ابدأ فيها رحلة السكن الاولى في المكان الاول، دخلا المقبرة خلفي، لم يبق في الدنيا مكان آمن.
هجر الطائران العاشقان المقبرة بعد تلك الليلة التي اغتصبت فيها طفولتي، ولم يعودا اليها، خشيت ان يهجر اصحاب القبور المقبرة ويتركوني وحيدة لا قبر يؤنسني ولا طير اناجيه في وحدتي.
عشت في مقابر العالم كله، كانت مكاني غير الطبيعي منذ ان رات عيوني النور ، اجيء القبور اسامرها وتجيئني راكضة لتسامرني، احكي لها عن الف ليلة وليلة والوم الف ليلة وليلة لانها لم تجعل لي ليلة واحدة فيها.
انا الليلة الثانية بعد الالف ، كانوا نسوني من التدوين وتناست شهرزاد رواية قصتي على الملك شهريار لانه سيقتلني او يأمر بقتلي لاني لم احفظ شرف العائلة.
انا الليلة الثانية بعد الالف من ليالي شهرزاد والملك شهريار، لكني ليلة لا يصيح فيها الديك ولا حتى ديك المزابل او ديك الجن، انا ليلة طويلة لن تسكت فيها شهرزاد عن الكلام المباح حتى لو صاح الف ديك وديك.
انا ليلة طويلة لن تنتهي لان شهريار ، عفوا صاحب الجلالة الملك شهريار لن يتركني اكمل ليلتي مع شهرزاد ، كان سيقتلني ، لن يتركني اكمل ليلتي مع شهرزاد ، سيقتلني في ليلة عمياء ليس فيها للقمر مكان.ٍ
لكنه غصب عني.
حاولت النوم بعد ان اقبل الليل بطيئا، سرقت اغفاءة صغيرة، حلم راودني كثيرا ، حاولت ان اكمله لكني كنت محرومة من الاحلام محرومة من الطفولة والحب.
ركضت بذاكرتي الى مدارس الاطفال والى ملاعبهم لكني كنت مقيدة بسلاسل قوية منعتني ان اعيش حلم الاطفال.
حاولت ركوب ارجوحة لكني كنت اسقط من اول محاولة.
لو ان ابي حملني معه في تلك الشاحنة، لو ان ابي ما تركني للتالي ما كنت عشت دخيلة على المقبرة ، كنت دخلتها بقوة وصاحبة حق في ان امتلك قبرا يكتب عليه اسمي وان كان صغيرا بحجم قبور الاطفال لكنه سيكون مليئا بالفضاءات من الداخل سيكون لي مكان ووطن.
سمعت حركة غريبة وصوت وقع اقدام تدخل المقبرة، الوقت ليلا لا يدخلنها احد في مثل هذا الوقت، المقابر ممنوع فيها اطلاق الرصاص .
خفت ، رجفت حواسي واطرافي، خفت ان يعود الرجلان المسلحان اليّ مرة اخرى فأنا اصبحت فريسة سهلة لهما.
سأقبل اقدامهما ، سأقول لهما انني بعمر بناتكم.
لا استطيع تحمل تكرار ما فعلاه بي، سأقتل نفسي هذه المرة ان هما حاولا الاقتراب مني.
وضعت جسدي الصغير بين ركبتي ودفنت رأسي وانفاسي في صدري، طلبت ا لرحمة والمعونة من كل الاشياء.
تذكرت الله.
الله وحده القادر على حمايتي منهما، تجاسرت على نفسي ، بحثت بقربي عن حجر، قدماي كانتا ثقيلتين تحت جسدي وجسدي لم يستطع الثبات.
حملت الحجر بيدي ووضعته فوق رأسي، سأكسر رأسي واقتل نفسي ان اقتربا مني.
اقتربا اكثر فازداد خوفي اكثر.
فجأة تغير مسار الاقدام، خف وقع الاحذية على ارض المقبرة، ابتعدا عن مكان القبر الخامس الذي التجئ اليه.
اتجها الى منتصف المقبرة، كان وسطها مظلما شديد العتمة.ظلت اصواتهما تصل اليّ قريبة مني، انهما رجل وامرأة . كان مسلحين، عرفت من حديثهما انهما كان في مهمة عسكرية.
جلسا.. كان الظلام شديد العتمة. سمعت صوت كاسات تقرع وضحكات مقطوعة.
كانت احداها لامرأة.
قالت له:
- ليس الان.
قال لها:
_ سيخرج النهار.
قالت له:
- بين القبور ؟!
قال لها:
- استر مكان، مكان لا يدخله الا الاموات.
قالت له:
-اخاف من القبور ، اخاف الموتى.
قال لها:
- ان من يعيش حياتنا لا يخاف الموت ابدا.
قالت له:
- قتلنا الكثيرين ، لكن منظر القبور يرعبني.
قال لها"
- جئنا الى هنا لنعيش لحظات امن بعيدا عن اعين البشر بعيدا عن اصوات الرصاص.
قالت له:
-لماذا نقتتل؟ لماذا لا نعيش في اسرة واحدة ، فهمنا واحد وقضيتنا واحدة ، هل ترى انت من جهة وانا من جهة اخرى وكلانا يمثلان خطين مختلفين ايهما الاصوب الله اعلم ومع ذلك فاننا يجمع بيننا الحب.
قال لها"
-انها الاوامر التي يجب ان تطاع.
قالت له:
-لعن الله الاوامر والامرين بها والمؤتمرين بها.
قال لها :
-الامر لله وحده... اقتربي.
لم اعد اسمع سوى انفاس ملتهبة خانقة مرتجة، وكادت انفاسي تقتلني خوفا.
**
-18-
صباح الخير.
قالت لساكن القبر الخامس دون ان تراني.
كان يوم خميس، جاءت تحمل بيدها غصن ياسمين، دخلت المقبرة واتحهت صوب القبر الخامس، لم تتأخر عن موعده لحظة، دقيقة جدا في موعدها كل خميس، كانت جميلة جدا تحمل عينين مليئتين بالبريق، بريق يدل على الحب والوفاء محاط بحزن دائم.
جلست جلسة مودع، مسحت التراب الذي يضم ساكن القبر الخامس، قبضت قبضة من التراب ، مسحت بها وجهها، لثمتها، لم تكن تشعر بي، وضعت غصن الياسمين عند رأسه وقرأت الفاتحة.
غضبت جدا ، امتلأت غيرة، ضربت الارض بقدميّ واخرجت صوتا، اردت ان اخرجها من لحظة العشق التي تعيشها مع ساكن القبر الخامس، احست بي وشعرت بوجودي، التفتت الي ، راتني غاضبة، ابتسمت في وجهي ، كانت عيونها متأكدة من عشقي ساكن القبر الخامس، لكنها هذه المرة اصرت على اني احبه.
قالت لي:
- اجلسي
واشارت بيدها الى يسار القبر.
رميت بجسدي قربها وزاحمتها فوق رأس ساكن القبر الخامس، حركت جسدها كأنها تخلي لي المكان.
قالت:
- سيكون هذا اليوم اخر زياراتي للمقبرة.
سألتها بفرحة ظهرت على وجهي واحرفي:
- ولماذا؟
- سيكون هذا الغصن، غصن الياسمين اخر عهد لي بالياسمين، لن اقدمه لاحد بعد اليوم ولن اقبله من احد.
- لماذا؟
- لكن لي طلب عندك.. طلب بسيط.
- ما هو؟
- احفظي القبر من الحجارة والاشواك والاعشاب الضارة ورطبيه بالمياه كل يوم ، كنت ارطبه بدموعي كل اسبوع، وارجو منك اذا استطعت ان تخصيه بالفاتحة ، ان استطعت كل يوم تلاوتها فافعلي والا فكل خميس، وارجوك، ارجوك ان تحضري لقبره غصن ياسمين كلما سنحت لك الفرصة فانه يعشق الياسمين.
- لكنك لم تجيبي على اسئلتي.
-وما هي اسئلتك؟
- لماذا اخر مرة تريدينها واخر زيارة واخر عهدك بالياسمين؟
مسحت دمعة نزلت من عينيها الجميلتين، دمعة وحيدة، مسحتها وامسكت بغصن الياسمين وقالت.
- تعاهدنا قبل خمس سنوات ان لا نقدم الياسمين او نقبله من احد سوانا.
- لكنك تطلبين مني ان اقدمه له.
- لانك تحبينه ربما اكثر مني.
- ولماذا ستتركينه؟
- الخميس القادم سيكون موعد خطبتي لرجل اخر. سيكون مساء الخميس القادم اول يوم ابتسم فيه لرجل غيره.
ضمت حفنة تراب من فوق القبر، ضمتها بين يديها، بكت حتى بلل الدمع حفنة التراب، بكت كثيرا لدرجة ان دموعها غيرت ملامح وجهها، بكت بشدة لم ار مثلها بكاء حتى اني بكيت معها وعليها.
فجأة توقفت عن البكاء وقالت:
- هذه رسائله لي، لم يطاوعني قلبي على حرقها ولا استطيع ان اصطحبها معي لبيت الرجل الذي ساصبح زوجته، اظن ان خير من يحفظها هو انت، هي امانة في ذمتك ولك حق التصرف فيها، ان شئت ابقيها معك وهذا ما اظنه ، وان شئت قطعيها اربا اربا وارميها في مهب الريح وان شئت احرقيها واجعلي منها رمادا يتطاير في السماء ويعانق روحه الطاهرة، هي ملك لك الان.
نظرت الي تستعطفني وتستسمحني، فهمت انها تريد مني ان انصرف ، شعرت بها تريد الخلوة بساكن القبر الخامس. للمرة الاخيرة.
ابتعدت قليلا بحيث ظلت اذني عندها .
سمعتها تقول له:
-وداعا ايها الحبيب الغالي الذي ما تأخرت عن موعدي معه يوم خميس، لم اجرؤ يوما من الايام بان اتأخر عن موعدي معك لحظة واحدة مع انك كنت تتأخر كثيرا، وكنت تنسى ان موعدنا يوم خميس من كل اسبوع، ولم اعاتبك على تأخرك، بل كنت اظهر لك كل الحب والسعادة لانك وصلت سالما،ولكنك وانا متأكدة، لم تنسني ابدا ، لكني كنت احافظ على موعدك كما احفظ حبك.
لكني اليوم، اليوم جئتك مودعة، منذ سبع سنوات وقت كنا في الصفوف الثانوية لم اقل لك وداعا ولم اسمعها منك ابدا، مرة واحدة قلت لك وداعا غضبت جدا وقلت لي:
- لا تقولي وداعا، قولي الى اللقاء.
لكني ايها الحبيب الذي كان كل يوم خميس يحمل لي معه غصن ياسمين، سبع سنوات لم يغب الياسمين من بين يديك ، واليوم جئتك بعد ان حملت لك الياسمين سنوات موتك، جئتك اليوم بآخر غصن ياسمين.
جئت لاقول لك وداعا وليس الى اللقاء، وداعا ايها الحبيب الذي ما ودعني ولم يأخذ برأيي ككل المرات، لم تشاورني لحظة قررت ان تموت برصاصة طائشة ، كنت تشاورني وتأخذ رأيي فيها، لكنك عند موتك ، عند موتك الذي جاء يوم سبت أي بعد يومين من لقائنا ، يوم قلت لي ستصلك رسالة خلال اليومين القادمين.وكنت تعرف اني سأرافقك في رحلة موتك.
الان ، الان وفي هذه اللحظة الاخيرة اقول لك وداعا يا اعز الناس على قلبي، اقول لك وداعا لا لقاء فيه ، لكني سأتركك مع عاشقة احبتك وانت في القبر مع انها لم ترك ابدا ؟
وداعا ايها الحبيب، وداعا ورحمة الله تتغمدك وتظلك في قبرك.
تركت المقبرة مسرعة، خرجت ولم تستجب لندائي، كنت اريد ان تكلمني عن عشقها، كنت اريد ان اواسيها بزوجها القادم، لكنها لم تسمعني خرجت وفي اثرها روائح الياسمين ، كانت ترافقها الى بيتها الجديد.
اسرعت بفتح الرسائل التي كان ساكن القبر الخامس يكتبها لها، شممت رائحة الياسمين فيها، كان خطه جميلا جدا، رتبتها حسب تاريخها قرأت فيها حكمة بكلمات حكيمة اخرجتني من مكاني الحالي قرب القبر الخامس الى مدينة حلمت بالعودة لها ومدرسة بكيت عليها كثيرا.
قرأت:
( خير مكان هو وطني ولا خير في وطن بلا اسرة)
تقطع قلبي على اسرتي، لكني بلا مكان وبلا وطن وبلا اسرة، اسرتي في المخيم، كانوا يريدون ان يصبحوا اسرتي، لكني تركتهم خوفا عليهم من نفسي، خشيت ان يزل لساني بامر زوجة قريبي وخروجها في منتصف الليل الى المرحاض، الخروج الذي يتكرر كل منتصف الليل.
انا اعرف نفسي جيدا واعرف ذاكرتي لا تستطيع اخفاء شيء. خشيت على هذه الاسرة الطيبة من الشتات مرة اخرى.
وكتب لها:
( بالامس بعد ان تركتك وخرجت من خميسنا ودخلت في خميسهم هم، وجدت خالتي جاءت من الكويت ومعها ابنتها، كانت في عمري وكانت جميلة ، لكنك اجمل منها ومن كل النساء.
شعرت ان خالتي تحاول ان تحشرنا معا في أي زاوية، لا يهم المكان، المهم ان نكون فيه معا.
فهمت ان هناك مؤامرة تدور في بيتنا بين امي وخالتي، لكني اموت ولا اكون لغيرك.)
وكتب لها في رسالته الاخيرة:
( ربما تكون هذه رسالتي الاخيرة، ايتها الياسمينة الشامخة علوا بالحب نحو السماء، ابي الذي احبه كثيرا تدخل في معركتي مع امي وحسم الامر لمصلحة امي وخالتي وابنة خالتي، اتصلت امي امس بخالتي تلفون تخبرها ان الامور جرت على ما يرام وان الولد وافق اخيرا، وطلبت منها ان تحضر هي وزوجها ٍوابنتها الى عمان باسرع وقت من اجل الخطبة والزواج.
انا احب ابي كثيرا واخجل ان انظر في عينيه، وابي يحبني حد التضحية، لكنه هذه المرة وقف الى جانب امي، كانت امي مصرة على زواجي من ابنة اختها وهددت ابي بترك البيت اذا لم يتخذ امرا لمصلحتها.
انا اخجل من ابي كثيرا ولا تطاوعني نفسي ان اقول له: لا..
ياسمينتي:
الاسبوع القادم سيكون موعد زفافي من ابنة خالتي، وربما لا يكون أي شيء في الدنيا، لا تغضبي مني ولا تبكي كثيرا، ولا تظني اني تركتك مودعا بلا لقاء، كنت اتمنى لو تكوني معي في كل ظروفي لكني هذه المرة ايتها الغالية سأكون وحدي، وربما لا يكون أي شيء في الدنيا سوى رصاصة طائشة.

**
-20-
قالت امي:
كان ابوك من اجمل شباب المخيم.
وقالت بعد ان انهت عقد ضفيرتين طويلتين من شعري:
- انت تشبهين والدك كثيرا ، الانف نفسه ووسامة والدك وتشبهينني بلون العيون و استدارة الوجه والشعر، حتى الشعر فانت تحملين استرسال شعر والدك وكثافة وطول شعري.
اصبحت امي امرأة بين ليلة وضحاها، كانت طفلة تلعب تحت شجر اللوز وتعلمها امها تطريز الثوب الفلسطيني عندما اصبحت سيدة ، هذا الوقت كان الحد الفاصل ما بين الطفولة والمرأة. لم تكن تدرك ماذا يعني زواج سوى انها كانت تلعب مع بنات المخيم في سهرات الاعراس . وتحت شجرة اللوز اصبحت امي امرأة ولها رجل .
لم تكن امي امرأة ناضجة وقت خطبها ابي، لكنه فاز بها في منافسة لم تكن للعواطف والمشاعر دور فيها، تعرض لها، كما يقولون، ابن عمتها وهو من شباب المخيم المميزين يريد الزواج منها ، وكان احق من ابي كما قالت امي لانه من اقاربها، لم يكن لامي كما اخبرتني أي دور في المفاضلة ما بين ابي وابن عمتها، امها، جدتي، هي التي اختارت ابي.
وقالت امي:
- ان جدتك وعمتي لم تكونا على وفاق.
وقالت امي:
- نتيجة لهذا الخلاف فاز ابوك بي.
وقالت امي ان امها اخبرتها بأمر خطبتها من ابي وهي في سن الخامسة عشر او اقل بقليل.
وطبقا لرواية امي فقد كانت في يوم ذي حرارة تكاد شمسه تلامس الارض وتقبلها، كانت تطرز ثوبا تحت شجرة لوز في البستان الذي يعملون فيه.
وقالت امي انها رأت ابي للمرة الاولى ، عرفتها فيه عمتي التي كان لها دور في موافقة امي.
- حتى لو عارضت ورفضت فاني سأتزوج من ابيك.
هذا ما كانت تردده امي دائما.
وكانت تقول لي وهي تدهن شعري بزيت الزيتون:
- الزواج ليس للمرأة فيه حيلة ، زواجي لم يكن بيدي بل بيد ابي وامي ، الزواج عندنا ايجاب العريس احيانا وهو الذي لم يختر عروسه، المهم ان يتزوج من أي امرأة مهما كانت، فالام تختار والاب يوافق، الزواج عندنا ايحاب العريس وقبول اهل العروس.
وقالت امي:
- لم يكن يسمح لنا الجلوس معا، كنت ووالدك نسترق النظرات كعاشقين محرم عليهما العشق.
كان مسموح له بزيارتنا كل اسبوع ساعة ويجلس في مكان بعيد عني في الغرفة التي تضم ابي وامي واخواني وامه واباه.
لكني بعد ان رأيت والدك واصبح نصيبي، وكان شابا وسيما، كنت اختلس النظرات اليه اختلاسا ، وعندما كانت عيوني تتلاقى بعيونه كنت اغض الطرف خجلا.
لكني لم اكن وانا اعيش سنا علمت من ابيك انه سن المراهقة لم اكن اكتفي بالنظرات وكان الحب قد بدأ يأكل اطراف قلبي، اصبحت امرأة تعشق، اعشق والدك.
كان الخجل المانع الوحيد والعذول القوي الذي يفرق بيني وبين ابيك، بيني وبين لقاء والدك الذي كان يحاول وكل مرة تفشل محاولته .
كنت اترصده صباحا عندما يذهب الى البستان للعمل فيه، كان البستان قريبا جدا من البستان الذي يعمل فيه والدي ووالدتي ، ومن اجل رؤية والدك اصر على احضار الطعام لاهلي بنفسي، وكنت اتعمد المرور بقربه حتى امسح بنظرات عيوني عرق جبينه.
مرة، وفي يوم من ايام قطف ثمار الزيتون ، وكانت البساتين مليئة بالعاملين بقطف الزيتون،كان يخرج كل من يسكن المخيم الى قطف الزيتون ،وكان العمل يستمر منذ الساعات الاولى للفجر ،يخرج الجميع بعد صلاة الفجر ولا يعودون الا لصلاة العشاء، كان المساء يقترب من الارض ، وكانت اواخر ايام ا لقطاف، فكان لا بد من العمل بجد ونشاط وسرعة من اجل انهاء العمل، واي عمل يكون في نهايته مملا، كان الليل اقبل واقترب من الارض، وكان والدك يقترب من الشجرة التي كنت اعمل فيها، جاء مع اخته لمساعدتنا بعد ان انهوا اشجارهم، امي علمت بهذه المؤامرة لكنها تجاهلت الامر، اقترب اكثر من الغصن الذي اعمل فيه وبدأ يقطف حبات الزيتون وقال لي:
-هذه الاصابع تستحق الذهب لا قطاف الزيتون.
تصبب العرق من جبيني وتجرأت على نفسي وقلت:
- الزيتون اغلى من الذهب.
تجرأ اكثر وامسك بيدي فشعرت برأسي بركانا ينفجر وتصبب العرق من راسي، وتلونت وجنتي ، وارتفعت دقات قلبي، كدت اسقط لولا الخوف من افتضاح امري، سحبت يدي وهربت الى شجرة اخرى بعيدا عنه.
ظل ابوك طوال فترة زواجنا يذكرني بتلك الحادثة وبهروبي منه وكلما ذكرني بها احمرت وجنتاي وكأنها اليوم، كنت حتى بعد مرور سنوات زواجنا اتهرب من هذه الحادثة بان اذهب الى المطبخ.

**
-21-
كانت رسائل ساكن القبر الخامس اكثر من ثلاثين رسالة سجل فيها خطواته الغرامية مع ياسمينته خطوة بخطوة ، كنت اقرأ رسائله وابكي، ابكي حرقة تارة وتارة اخرى وجعا وغيرة من حبيبته وتارة حسرة عليه.
تألمت كثيرا لحالته فقررت ان اذهب الى عملي اليومي الذي اصبحت اتقنه ، متسولة شرعية، احمل شهادة في التشرد والتسول، اجوب شوارع عمان من اجل عشرة قروش، ممنوع على واحدة مثلي ان تجلس امام المساجد او الاشارات الضوئية لانها محجوزة .
المكان الوحيد المسموح الجلوس فيه للراحة وليس للتسول هو عند الطفل ماسح الاحذية ، البويجي، كان في نهاية الطفولة، يعمل منذ ساعات الصباح الاولى ، يأتي من المخيم مع اطلالة الشمس ويعود والليل يعلن قدومه، يرمي به باص المخيم صباحا مع صندوقه المليء بطلاء الاحذية، يحمله على كتفه.
من موقف الباص الى المكان المخصص لعمله على الرصيف ، مرة كشف لي عن اصابة كتفه ، رأيت علامة حزام الجلد الذي يحمل فيه الصندوق مؤثرة في كتفه من اثر حمل الصندوق المتواصل الصندوق الذي رافقه وسيرافقه مدى الحياة فهو لا يملك مهنة الا الصندوق ، يرسم بالوانه لواحات جميلة على احذية المارة كما اخبرني يوما ونحن نتناول طعام افطارنا المكون من الخبز والشاي.
يميل الى السمرة ، قال لي مرة انه ولد في المخيم، اما اهله فأتوا من بيسان، وقال لي انه يعمل ليعيل عائلته وان والده اجبره على ترك المدرسة من اجل تخليصه من المشاكل واخبرني ايضا ان والده هو الذي اختار له هذه المهنة التي لا يحبها وهي تحبه منذ الصباح الباكر وقبل الشمس يخرج يحمل صندوقه ويعمل ليمساعد عائلته .
- الحياة صعبة وتحتاج من الجميع التعب، كنت متفوقا متوسطا في دراستي واستطيع ان اواصل تعليمي واستمر حتى الجامعة لكن ابي اصر على اخراجي من المدرسة والعمل في هذه المهنة.
ارمي بجسدي قربه كل ظهيرة واراقب الاحذية وهي ترفع في وجهه الاسمر الطفل، كانت احذية كبيرة تأتي اليه متسخة باتربة الشوارع وهمومها ، احذية اكبر من الطفل ماسح الاحذية حجما واحيانا عمرا، احذية كبيرة تحتاج الى عمل مضن، اشعر بهذه الاحذية تجر اصحابها وتسحب لابسيها الى( البويجي) من اجل الاستراحة، فهي تمشي باستمرار وتجوب الشوارع بلا توقف قاطعة مسافات كثيرة وتحتاج بعد تعب الى استراحة ، اسميناها انا والطفل البويجي استراحة الاحذية، تسحب اصحابها سحبا من اجل الاستراحة بحجة المسح والتلميع.
مرة جاءه حذاء ، عفوا شاب ينتعل حذاء تغيرت ملامحه ويريد تلميعه ، كنت اتناول افطاري معه قطعة خبز وكأس من الشاي، قال له الشاب:
- ارجوك اجعله يلمع ، ساذهب اليوم الى الجامعة.
ضحكنا من منظر الحذاء وحزنا لمنظر الشاب، تبدو عليه علامات الفقر الشديد ويظهر ان حذاءه كان لوالده، مشى فيه اكثر من مائة شارع وشارع.
حاول صديقي البويجي تلميع الحذاء بكل الخبرات التي يمتلكها لكنه عجز عن جعله لامعا واكتفى بالاعتذار . ورفض ان يأخذ اجرته بحجة انه لم يلمعه بشكل ممتاز، لكنه قال لي انه رفض الاجرة لانه شعر ان كل ما يملكه الشاب هو اجرة التلميع.
صديقي البويجي يعرف كل المارين من الشارع ويروي بذاكرته كل الاحداث التي تقع يوميا امامه ، ويعرف ، بل هو متأكد ان نهايته ستكون في هذا الشارع من رصاصة طائشة او من سيارة مسرعة او من حذاء كبير يدوس عليه عندما يلعلع الرصاص في كل مكان ويهرب اصحاب الاحذية الكبيرة ويدوسون كل شئ امامهم ، الاخضر واليابس.
ومرة قال لي:
_ هل تعتقدين ان الاحذية لديها ولاء ووفاء؟ .
- الاحذية !؟
- نعم الاحذية، انا امسح اكثر من نصف احذية المدينة وهي تعرفني ، فهل يأتي يوم ما يدوسني حذاء لمعته ومسحته اكثر من مرة او يقذفني به صاحبه،، لا اظن ذلك، للاحذية وفاء كما الكلاب وفية فان الاحذية وفية، الا ترين معي انها تتحملنا سنوات وسنوات ونحن ندوسها ونسير فيها من شارع لشارع ونقذف بها الحجارة ونعرضها لمسامير ومطرقة الكندرجي وتساعدنا في المعارك الجانبية كأسلحة يقذف بها الخصم من بعد ، وهي صامته، ان الاحذية وفية اكثر من الكثيرين..
وقال لي مرة:
- جاءني احد الزبائن الدائمين عندي بعد غياب لمدة اسبوع واخبرني ان سبب غيابه انه ذهب الى بويجي اخر ليلمع له حذاءه ففشل البويجي في تلميع الحذاء وفشل الحذاء بالسير كما كان ، وانه جاء الي لان الحذاء تعود على لمسة اصابعي.
- هل كان يربط بينك وبين ماسح الاحذية علاقة حب.
- لا
- لكني ارى انك معجبة به جدا.
-انا الان لا ادري اين مكانه، هل هو حي ام ميت ، هل قتلته رصاصة طائشة ام داسته الاحذية الكبيرة الضخمة ام انها كانت وفية له، لكني اقول لك لم احب احدا في حياتي سوى ساكن القبر الخامس وانت.
-والبويجي ؟!
- كنت اعشق فيه اخوته، لابد للانسان من اخ حتى لو لم تلده امه، البويجي كان اخي ، هو كان مدركا لذلك، لم يراودني عن نفسي حتى بنظرات عيونه، كان ممن شردتهم الحروب.
- انت تعتقدين ذلك
- ربما ، لا يعلم ما تخفي الصدور الا الله
كان كل صباح يشتري لي كأس شاي ونأكل معا افطارنا الصباحي، كان اخي.
كنا في فترة المساء نتسكع في شوارع المدينة الكبيرة التي تجهز نفسها للنوم، المدينة الغافية على حلم الحب الاخوي، كان البويجي يسترق بعض الدقائق ليتسكع معي امام المحلات وكان يفضل محلات بيع الاحذية، كان يهرب من مسح الاحذية مدة نصف ساعة كل يوم، نصف ساعة قبل مجئ باص المخيم:
- المخيمات كثيرة تملأ وجه الارض وتشغل الناس والدنيا.
ومخيم الطفل ماسح الاحذية صاحب صندوق البوية ليس بالضرورة ان يكون مخيم فتاة المسجد الحسيني ولا يمكن ان يكون المخيم الذي اعيش فيه وان كانت كل المخيمات متشابهة بدموع التراب ، نحن اطفال المخيمات دموع التراب الذي تبكيه عند كل مساء.
-الم تبحثي عنه.؟
- سألت عنه مرة واحدة لكن المخيم اتسع هذه الايام واصبح كبيرا ولم يعد سكانه يعرفون بعضهم البعض كالسابق عندما كان صغيرا.
لم اودعه عندما عدت الى المخيم، لاني قررت العودة فجأة، لم اكن من الاوفياء ، الحذاء اوفى مني ، لم اودعه لاني لم اجده وقتها ولم احاول البحث عنه، ربما تكون مني قلة وفاء لكني كنت اهرب الى الخيم.
تركته ظهر اليوم بعد ان قررت العودة للمقبرة والعودة مرة اخرى الى رسائل ساكن القبر الخامس، اريد قراءتها مرة اخرى، ثانية وثالثة علي اجد شيئا لي ولو باحرف صغيرة كتبت بين السطور.
اريد قراءتها على نور الشمس، فالعتمة تمنعني من النظر في الحروف ،ودعت صديقي ماسح الاحذية وكنت اخبرته عن امر الرسائل لكني لم اخبره عن الرجلين، لا ادري لماذا هذه المرة خانتني ذاكرتي او انها وقفت معي وقفت الى جانبي ولم تخبره بأمر الرجلين المسلحين .
ودعته كل المرات دون ان يعرف الالم الذي تركاه في نفسي وقلبي ليلة الاغتصاب.
كنت جمعت في ذاك اليوم من التسول عشرين قرشا تكفي مصروف يومين استطيع فيهما التفرغ للرسائل التي نعت كاتبها قبل وصول الرصاص الى جسده الصغير.
-22-
عدت الى المقبرة مبكرة هذه المرة ، عدت اليها والوقت بداية النهار، دخلتها عند صلاة الظهر، على عجلة من امري مشتاقة لقراءة الرسائل ، و فرحة بتخلصي من صاحبتها وتفرغ قلب ساكن القبر الخامس لي وحدي، كنت صغيرة طفلة بداْت حياتها الغرامية مع قبر.
دخلت الى المقبرة واذ بضيوف حلّوا علينا، رجال يحملون زائرا جديدا ، او زائرا مقيما معنا ، حفروا له القبر او البيت بزاوية من زوايا المقبرة، بعد ان دفنوه وانصرفوا .
جلس بقرب القبر رجل وامرأة ، كانا في اواخر العمر، جلسا طويلا والبكاء ثالثهما، المرأة بكت اكثر، كان الزائر الجديد ابنتهما الوحيدة ، ماتت بمرض عضال لم يكتشفوه الا بعد فوات الاوان عندما سيطر على خلايا جسدها وقتلها.
هذا ما قالته لي امها عندما همت بالانصراف.
**
-23-
شعرت في تلك الليلة التي عشقت فيها ساكن القبر الخامس ودخلت نسمات حبه في اعماق قلبي ، شعرت بأشياء تتغير داخلي، اشياء لم اعتدها من قبل تتبرعم داخل روحي ، لها عطر الورد وبصيرة نافذة ترى نورا اعتقدت وقتها ان احدا غيري لا يمكن ان يراه، خفقان في قلبي مستمر، احسست بمشاعري تفيض، وتنتشر في كل مكان، مشاعر هائمة وخطوط من نور لا يمكن مسكها، سعادتي الفياضة تكفي ملايين البشر وتفيض عليهم وتنشر الروائح كالياسيمين الذي يحبه ساكن القبر الخامس.
كنت اسمع اصوتا لا افهمها، فقد تعطلت حاسة السمع عندي.
شعرت بروحي تخرج من جسدي في عتمة المقبرة، وشعرت بتحررها من جسدي الذي اصبح لا سلطان له عليها.
ومهما تكن المشاعر التي اعيشها فلن يتذوق بشر سعادتي التي اتذوقها في هذه الليلة.
قلت لساكن قلبي وساكن القبر الخامس
- انت اول حب تعيشه فتاة مراهقة ومرهقة قتلها رجلان بلا ضمير، انت حبيبي وعشيقي الذي بتّ اعيش له واحلم باحلامه.
- ربما انك قد تفكر برفض حبي لك ، ربما تدعي انك على محبة اخرى، لكنك لست لها الان وهي ليست لك.
اسمعك في قبرك ترفضني، واسمعك احيانا تحبني، لكنك ستظل حبيبي لاني لا استطيع ان احب غيرك، انت في قبرك وانا في مقبرتي ولن اقبل حججك التي ترفضني بسببها ، لن اقبل ايماءاتك الواهية، لن ادعي اني اضحي بك لا، لن اقبل غيرك حبيبا لي حتى وان صحت باعلى صوتك ترفضني..لن اقبل.
شعرت بنفسي مجنونة، اخاطب قبرا واسمع صوت ساكنه، ايكون ساكن القبر الخامس محدثي ام اني متوهمة، اجننت ولكن، الم يتحدث القس ميلانصو الى رأس الحسين بن علي رضي الله عنه عندما قتله جيش يزيد بن معاوية.
ذلك القس الذي خاطبه الرأس المقطوعة وهو يقطر دما عبيطا، استأجره لليلة واحدة، استأجر الراس من الحراس الغلاظ، رأس ابن السيدة فاطمة الزهراء وابن علي بن ابي طالب رضي الله عنهما، كان الحراس يحملون الرأس الى دمشق ليحصلوا على جائزة ا لقتل من خليفة المسلمين يزيد ، استأجر القس ميلانصو رأس الحسين بعشرين دينارا ذهبا بيزنطيا وهي كل ما جمعه في حياته الطويلة ، الرأس التي حزها الشمر ذي الجوشن.
وانت ايها الحبيب النائم في القبر الخامس أي شمر كان قاتلك، كل حاملي السلاح في ايلول هم شمر(**)(الشمر هو قاتل الحسين بن علي رضي الله عنه)
جلست عند رأس ساكن القبر الخامس وبدأت بفتح الرسائل ، لكني توقفت فجأة ، شعرت بذاكرتي تتحرك وتتململ، تفكر ذاكرتي بشئ قد يسيء لي، وقد تقتلني ذاكرتي يوما من الايام او اقتلها بحذاء كبير ضخم ، ذاكرتي كشجر الدر ستقتلها القباقيب.
تصر ذاكرتي على قول شئ ما ، تتململ ثانية وتتحرك في رأسي الصغير، تفكر بالاساءة، ولمن تسيء، لي انا صاحبتها ومالكتها، ليت لها وفاء الكلاب او احذية صديقي ماسح الاحذية.
ذاكرتي تشبه الاطفال في عدم مقدرتها على حفظ الاسرار ، وكما يقولون ( خذ اسرارهم من صغارهم) .
ذاكرتي ليس لها اسرار، لا تعرف الكتمان ولا تعترف بخصوصية بعض المعلومات، كل شيء لديها مباح للاخرين، وكل ما لدي وما لديها كتاب مفتوح يقرأ منه من يشاء بلا حساب او سؤال.
شعرت بها تريد ان تتكلم فسبقتها لاحرمها متعة البوح بالاسرار وافشاءها.
قلت لساكن القبر الخامس:
انت ايها الراقد في القبر الخامس القريب من باب المقبرة، صدر المكان للوجهاء ولا يجلس على الابواب الا الفقراء والايتام.
انت ايها الميت برصاصة طائشة اخترعتها لتهرب من وقتٍ وزمن رفضته واعتدى علي ، ليت لي رصاصة طائشة كما لك انت، انت اول من خفق له قلبي واول من تحركت نار الغيرة النسائية عليه.
اتدري ان فوق رأسك ارتكبت مجزرة انسانية بحقي وكنت ضحيتها. كنت طفلة بللتها دماء الدورة الشهرية عندما جاء الرجلان،كانا في سن العشرين, كانت لهجتهما غريبة عنا .
لا تغضب لاني اعترف لك بمصيبتي، انا لست عذراء، انا لست بكرا، وخاتم الانوثة، وخاتم العذرية فضه رجلان مسلحان بالحقد والحيوانية، ليتهما ارسلا رصاصة طائشة من سلاحهما لتقتلني.
كنت في مدرسة مخيم جنين الاولى على صفي، كنت احب لعب كرة الطائرة ومن المميزات بهذه اللعبة في مدرستي، وكنت متخصصة برفع علم بلادي.
اسمع ايها الميت في القبر الخامس ، انت الان تستشيط غضبا، تتمنى لو انك لم تقتل لتقتلني دفاعا عن الشرف، ولماذا لا تقتل من اغتصبني ولماذا لم تحمي طفولتي يوم اغتصبني الرجلان؟
لا تغضب مني كثيرا ولا تقل انني المسؤولة عما حصل لي، وتحملني الاثم والذنب بدءا من هروبي من المخيم خوفا كما ادعي على اسرة قريبي .
هروبي من المخيم الى دار رعاية الايتام وهروبي من دار ايواء الايتام الى المقبرة.
لكنهم ارادوا قص شعري الطويل الذي كانت تحبه امي وتعتني به باستمرار وتدهنه بزيت الزيتون ليواصل امتداده الى الاسفل.
ارادوا قص شعري وكان شعري يعتبر الذكرى الوحيدة من امي الذكرى وليس الذاكرة.
شعرت باني اختنق وانا اسرد لساكن القبر ذكرياتي قبل ان تشي بها ذاكرتي الخبيثة، خرجت من المقبرة باتجاه عمان ، بحثت عن شجرة الياسمين، بحثت طويلا، امتد البحث ساعات، عدت بعدها بيدين فارغتين من الياسمين ، لم اجدها وكأن الدنيا امحلت من شجر الياسمين .
كان هناك شجرة باسمين وكنت احضر له منها غصنا واحدا كل يوم ، لم اجدها ، سألت عن شجرة ياسمين وجدت من يرشدني الى واحدة اخرى، في اللحظة التي فقدت الامل بالحصول على ياسمينة ، وجدتها اجتثت من اخر عروقها، اقتلعت من تحت الارض .
وصلت الى مكان الياسمينة المزروعة فيه منذ الابد فوجدت عمال النظافة يحملونها بسيارة النفايات.
عدت الى المقبرة حزينة باكية العينين ويداي لا تحملان الا هما.
دخلت المقبرة واتجهت صوب القبر الخامس معتذرا ، لاني لاول مرة منذ عرفته لا احضر له غصن ياسمين وهذا نذير شؤم، فحبيبته لم يأت عليها خميس بدون الياسمين وانا افقده من الشوراع والحدائق.
اقتربت من القبر، ويا للمصيبة ، انها مصيبة كبرى ما حل بالقبر، وجدت القبر الخامس منبوش ولصوص حلوا بالمقبرة ا ثناء غيابي وسرقوا رفات الميت، ايكون هو الذي هرب، اتكون ذاكرتي جعلته يختفي من حياتي .
اول ليلة تمر بدون ساكن القبر الخامس واول لحظة ادخل فيها المقبرة بدون غصن الياسمين.
وقررت بعد ان تأكدت ان ذاكرتي خانتني وان ساكن القبر الخامس لم يتحملني قررت ان اتخلص من كل ما يربطني به، من ذكرياته معي ، ومن رسائله التي كنت احملها كتابا مقدسا .
اخرجت الرسائل من كيسها ، نظرت اليها نظرة عاشق يودع حبيبته، بكيت على فقداني ساكن القبر الخامس ، وبكيت اكثر لاني لا استطيع ان افي بوعدي لصاحبة الرسائل بان احفظها .
بكيت كثيرا ورميت برسائله في اسفل القبر ودفنتها بالتراب.
لم اخن صاحبة الرسائل ،ان رسائلها في المكان الامن وفي المكان الذي يجب ان تكون فيه، انها ميتة الان وحلت في مكان صاحبها الهارب من العار ، اللعنة عليك ايتها الذاكرة الخبيثة التي تبوحين باسراري بحجة الصراحة والصدق.
هل كنت على حق ام اني اناطح الصخر بقرون من طين ،والناس اليسوا على خطأ ،العالم كله خطأ الدنيا ملعونة وملعون ابو الدنيا.
**
-23-
رأيت الرجلين يحومان حول المقبرة، ميزتهما من كرهي لهما، من الحقد الذي زرعاه في احشائي الصغيرة، من علامات قتل الطفولة التي تعج بها عيونهما.
كان الوقت ضحا، وكان الرجلان يتربصان بي وينتظران الليل المعتم ليرتكبا جريمتهما ثانية، يتربصان بفريستهما، يحومان حول المقبرة ، اختبأت في زاويتها البعيدة قرب قبر الفتاة الجديد، فعلت كما تفعل النعامة وضعت رأسي في الرمال واظهرت جسدي، لم اجد أي زاوية معتمة اخبئ فيها جسدي الصغير، كان باب المقبرة يقترب مني ويمحو المسافة، احاول ابعاد المسافة بيني وبين باب المقبرة، احاول جاهدة اطالتها لكنه يقترب مني.
ايها الليل ظل بعيدا عني لا تقترب مني، ارجوك ايها الليل ابتعد بنجومك الخجولة واقمارك المكسوفة مني، لتظل شمسك ايها النهار ساطعة طاردة العتمات من حياتي هذا النهار فقط.
لا يوجد لي احد يحميني هذا المساء حتى ساكن القبر الخامس هرب مني وانسحب من حياتي ، ليتني كنت مكانك ايتها الضيفة الجديدة على مقبرتنا، ليتني كنت انا الميتة وانت تعيشين حياة سعيدة بين اهلك، فانا لا اهل لي.
اقتربت الشمس من الغرب قليلا وانا اضع رأسي بين القبور مختبئة، تقدمت خطوتين خائفتين وزحفت قبرين فثلاثة قبور، كنت اتسلل للخارج ، وصلت الى القبر الخامس الذي يضم رسائل فقط بدون جثة، اخرجت رأسي الصغير من باب المقبرة وجلت بعيوني التي ترتجف خوفا، نظرت يمينا ثم يسارا لم اجد احدا، هل غادر القاتلان باب المقبرة ام اني اصبحت اتوهم؟ هل غادرا بلا رجعة ام انهما ينتظران حلول المساء وقدوم الظلام والعتمة.
ماذا افعل يا ربي ، ارشدني الى اين اذهب والى من التجئ وانا لا اعرف احدا. أأعود الى الملجأ ؟ سالاقي الامرين وربما يرفضون استقبالي بعد ما حل بي، انام في الشوارع ، الشوارع مليئة باولاد الحرام وبالرصاص الطائش، ليت الامر يظل على رصاصة طائشة كنت فرحت بها، لو اني اعرف مكان الرصاص لذهبت اليه بقدمي لكنه احتمال صغير والاحتمال الكبير ان اظل فريسة لاولاد الحرام.
يجب ان اتخذ قرارا بسرعة . هل اذهب الى الشرطة واقدم شكوى؟ سيسألوني عن اهلي وعن المكان الذي جئت منه وليس ببعيد ان توجه لي تهمة الاخلال بالاداب العامة.
يا رب انت الوحيد الذي بقي لي.
فجأة لمعت برأسي فكرة، المخيم، واقاربي . يجب ان اعود الى هناك، انهم اناس طيبون ولن يتوانوا في استقبالي واحتضاني، سأقتل ذاكرتي ان حاولت ان تشي بشئ ما، سأحطمها ان فكرت لحظة ان تحكي عن الزوجة وخروجها في منتصف الليل، الخروج المتكرر الى المرحاض.
عدت الى المقبرة، حملت دفاتر ابي واغراضي البسيطة، تجولت بين القبور، ودعتها ،وقرأت على ارواح ساكنيها سورة الفاتحة، بكيت جدا حتى احمرت عيناي، جلست عند قبر الفتاة الجديدة ، قرأت لها وحدها قصار السور والفاتحة، اعتذرت منها لاني اغادر يوم حضورها ولم اقم بواجب الضيافة، حدثتها بسرعة عن المقبرة وزوارها وعرفتها بساكنيها واوصيتها بالقبر الخامس الذي يضم رسائل اول حبيب يهرب مني، وحدثتها من تلقاء نفسي عما حصل لي في هذه المقبرة وودعتها وقرات على روحها سورة الفاتحة وخرجت مسرعة من المقبرة هاربة خائفة ان يعودا ويمنعاني من الخروج، اسرعت الى صديقي الطفل ماسح الاحذية ، اريد ان اودعه لكني لم اجده ، كان اخبرني انه سيغير مكانه او سيتنقل في اكثر من شارع خاصة بعد ان اصبح الشارع الذي يجلس فيه نظيفا واصبح سكانه من العائلات الراقية التي لا تسير في الشوارع على اقدامها.
سرت في شوارع عمان كثيرا ووجدت اكثر من الف شجرة ياسمين فعمان مدينة الياسمين، لم تطاوعني يدي بقطف غصن واحد من الياسمين، لمن اقدمه، لساكن القبر الخامس الذي هرب مني، وقفت عند شجرة ياسمين ، شممت عطر زهرها وبكيت وكانت المرة الاخيرة التي اشم فيها الياسمين.
ذهبت الى صديقتي الجالسة عند المسجد الحسيني ، رأتني فابتسمت مرحبة بي، لم تطردني هذه المرة ولم تحذرني من احد.
قلت لها:
- لن اطيل الجلوس عندك حتى لا اعرضك للاذى.
كأنها عرفت اني جئتها مودعة فقالت:
- ولا يهمك. اجلسي معي متى ما بدك والى أي وقت بتريديه.
- لا، لن اجلس، جئتك اليوم مودعة.
- ماذا؟ مودعة والى اين تذهبين؟
- ساعود الى اقاربي في المخيم.
_ إلك قرايب؟!
- نعم لي اقارب في المخيم.
- وهل هم طيبون.
- جدا.
فتحت عيونها، لاول مرة ارى عيونها بهذه السعة، كانت عيونها جميلة جدا، كانت دائما تمثل انها لا ترى كثيرا.
قالت:
- إلك قرايب طيبين وبتشردي وبتعرضي حالك للخطر ولاولاد الحرام.
- لم اشأ ان اثقل عليهم.
- الرزق على الله.
- ونعم بالله.
- اسمعي..احنا المشردين المهجرين من اوطاننا حكاياتنا كثيرة، كلنا قرايب، وكل غريب للغريب قريب.
( كل بيت مهدم يخفي جراحا لا تندمل في قلوب اصحابها..وكل خيمة جديدة تحكي اسرارا على لسان قاطنيها.. ولكل وجه فلسطيني بات يضم حكاية حزينة لا تمحوها الايام ولا تخطئها ذاكرة التاريخ)** انت وجه فلسطيني خلف عينيك حكايات كثيرة حزينة ومؤلمة.
تركتها بعد ان قبلتها وبكينا للفراق وتواعدنا ان نلتقي في لقاء قريب، تركتها وركبت باص المخيم ، كلماتها كانت مليئة بالاحرف التي كنت اعجز عن النطق بها، كل الحكايات مخبأة في وجهي، حكاية ابي وامي حكاية الاغتصاب لامي ولي وربما لمعلماتي الفاضلات والتشرد والمخيمات والمرحاض وساكن القبر الخامس والياسمين والرسائل التي دفنتها مكانه وصديقي الطفل ماسح الاحذية والمتسولة امام باب المسجد الحسيني،كلها حكايات مخبأة في وجهي بين عيوني.
دخلت المخيم.
سنوات طوال لم اره، لم اتعرف عليه اولا، كنت من الذين نسوا المخيم ومن فيه، انا ولدت في
مخيم وتشردت الى مخيم وهربت من مخيم وها انا اعود الى المخيم..
سألت الجالسين امام الدكاكين عن بيت اقاربي، لم يعرفه اول الامر الكثيرون، توسع المخيم وازداد توسعا وعمرانا لكنه لم يزل على حاله معدوما من النظافة والخدمات، ومازالت المجاري تمر مكشوفة الرأس من شوارعة الضيقة وزقاقه المخنوقة . مازال المخيم مخيما.
تجولت بحجة السؤال عن منزل اقاربي وكلي خوف من ان يكونوا تركوا المخيم ، لكن الى اين يذهبون؟ ايكون عرف بقصة المرحاض وقتل زوجته دفاعا عن الشرف وتشرد الابناء بعد ان دخل السجن .
اخيرا كان البيت الذي ما يزال مرحاضه قابعا امامه مثل كوخ لحارس ليلي.
-25-
في ايلول اخر من ايلولاتنا الكثيرة، في 16/9/1982 وفي سنة كنت اعد نفسي فيها لان اصبح طبيبة، كنا فرحين باقتراب موعد تخرجي من الجامعة، كان لي يومان لم ارك فيها ، كان اليوم بداية الاسبوع حيث اكون دائما مشتاقة لك ، افتقدك في نهاية الاسبوع عندما نفترق انت الى الرمثا وانا الى المخيم، كنت اجهز نفسي كعروس كي القاك ، اليوم موعدنا في شارعنا ، شارع الاداب، لقد نسيت في هذا الصباح موعدنا، اتدري انها المرة الوحيدة التي نسيت فيها موعدك، ليست ذاكرتي هي السبب، انما ما جاء به قريبي الذي اسكن معهم في المخيم .
عاد الى البيت بعد ان خرج ساعة ،جاء يحمل بيده جزءا من جريدة، ويبكي، كنت اعد نفسي للقائك، وكانت زوجته تقوم باعمال البيت الصباحية، دخل والدموع تنزف من عينيه وقال:
- فعلوها مرة اخرى..ذبحوهم.
قالت الزوجة:
- من الذي فعلها وذبحوا من..هل جننت؟ هل جرى للاولاد مكروه؟
لم يتكلم ، لم تجرؤ الحروف ان تخرج من بين شفتيه.
قلت له:
- لماذا تبكي يا عمي؟ اخبرنا وارح قلوبنا..قتلتنا بصمتك.
ظل صامتا الا من البكاء، صرخت زوجته في وجهه، اشار الى الجريدة التي يحملها، سحبتها زوجته من يده وقالت:
- اقرأي ما فيها.
امسكت الجريدة وقرأت:
(دخلت مجموعات ذئبية امس الاول مخيم شاتيلا وحي صبرا المجاور واستباحته وفتكت بالمدنيين فتك الضواري، وتضاربت المعلومات عن حقيقة ما جرى صبيحة ذلك اليوم وفي اليومين التاليين لكن من المؤكد ان هذه المجزرة لم تكن رده فعل على اغتيال بشير الجميل في 14/9/1982 بل كانت جزءا من خطة مدبرة اعدها باحكام وزير ا لدفاع الاسرائيلي اريئيل شارون ورفائيل ايتان رئيس الاركان الاسرائيلي وجهات محلية اخرى في طليعتها القوات اللبنانية.
وذكرت مصادر مطلعة انه كان هناك اجتماع ضم شارون وامير دروري وايلي حبيقة رئيس جهاز الامن في القوات البنانية واكد المصدر نفسه انه اقر في هذا الاجتماع الاسراع في ادخال مجموعات من افراد الامن الى مخيم شاتيلا.)
ومما جاء في خبر الجريدة:
( بدأت المجموعات المتفق عليها في الاجتماع في تجميع افرادها ومعداتها في مطار بيروت الدولي استعدادا لساعة الهجوم وما ان اطبقت العتمة على المخيم ومحيطه حتى راحت القوات الاسرائيلية تلقي القنابل المضيئة فوق مسرح العمليات، وفي هذه اللحظات بالتحديد كان افراد القوات اللبنانية يطبقون على سكان المخيم الغارقين في ليلهم وبؤسهم .
وذكر ناجون من المذبحة الذين وجدوا يهيمون على وجوههم ذاهلين تائهين روعّتهم المأساة وتركت في نفوسهم ندوبا من الاسى الاليم بعدما فقدوا كل شيء ، اباءهم وامهاتهم واخواتهم واطفالهم وزوجاتهم وبيوتهم وصور الاحبة واشياءهم ذكروا ان سكان المخيم تعرضوا للقتل الجماعي والاغتصاب والتشريد واجمعوا ان عدد القتلى يتراوح ما بين (2000 الى 3000) شهيد ا ثلثهم من اللبنانيين المقيمين في محيط المخيم في منطقتي الحرش والحي الغربي في الحي المعروف بحي البعلبكية وشهداء فقراء من مصر وسوريا وايران وباكستان كانوا يعيشون مع الفقراء اللبنانيين في المناطق القريبة من مستشفى عكا ومخيم شاتيلا.)
اسرعنا بفتح التلفزيون بحثا عن المحطات العربية، بحثنا فيه عن اي شئ يعلمنا عن المذبحة، لكنها كانت تغني ومشغولة بالنشيد الوطني.
اسرعت الزوجة الى الراديو وفتحته، حاولنا التقاط أي خبر من الاذاعات العربية لكنا فشلنا.
بكينا ايلولا اخر، بكينا مذبحة جديدة انضمت لشلال الدماء الذي لا يزال يقطر دما الى يومنا هذا.
قمت لصنع القهوة بعد ان قررت الغاء ذهابي اليوم الى الجامعة، شربناها ممزوجة بالدمعة، كانت شقيقة قريبتي تسكن في مخيم شاتيلا، الزوج خرج للاتصال بالهاتف والتقاط الاخبار لكنه عاد دون ان يحمل أي شيء يطمئنها عن شقيقتها، بكت كثيرا على شقيقتها التي تجهل مصيرها. دعت الله ان ينجيها واستغفرته كثيرا .. وقالت:
-استغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم ، يارب خلصتنا مرة فخلص شقيقتي مرة ثانية.
حاولت تهدئتها لكنها بكت وقالت:
- لم نر بعضنا البعض منذ سنوات كثيرة كنا صديقتين اكثر منا اختين، نجونا من مذبحة دير ياسين وهربنا الى مخيم في الضفة الغربية ولما اشتد علينا القتال هربنا بانفسنا وارواحنا واعراضنا ، انا تزوجت في الاردن واختي تزوجت في لبنان.
قبل الشتات الاول كنا نسكن دير ياسين ، طفلتين ما نزال في سنواتنا الاولى.
قالت زوجة قريبي:
- كنا انا واختي شقيقتين توأمين لا نفترق ابدا حتى عند النوم كنا نتشارك في الفراش، كنا طفلتين مدللتين عند امنا ، وكنا شقيتين لدرجة ان ابي كان يدعو علينا بالموت ويقول :
- الله يعين من تكن زوجات لهم.
كنا نسكن قرية دير ياسين ويسكننا الالم والخوف، وفي منتصف ليلة ايلولية ، كانت الساعة الثانية فجرا داهمت عصابات صهيونية قريتنا وشرعوا بقتل كل من وقع في مرمى اسلحتهم.
كنا انا وشقيقتي التوأم نتقاسم فرشة وابي وامي في غرفتهما ويشاركنا الغرفة اخواني اما الغرفة الثالثة فكانت مخصصة لجدي وجدتي العاجزين.
سمعنا اصوات الانفجارات في ا لخارج ، اعتقدنا بداية الامر انها معركة مع الثوار لكن ابي عاد بعد ان استطلع الامر وقال:
- العصابات الصهيونية يقتلون الجميع.
ارتجفنا خوفا ورعبا. قالت امي.
- ماذا نفعل؟ كيف ننجوا باطفالنا.؟
كان منزلنا بعيدا شيئا ما عن وسط القرية ، اختبأنا معتقدين ان هذا البعد سيحمينا من ا لقتل.
كنا نبكي حالنا وحال الحرية عندما دخل اعمامي وعماتي ملتجئين الينا وهاربين من وسط القرية .
قال عمي:
-يرمي الارهابيون الصهاينة القنابل داخل المنازل لتدميرها على من فيها.. يحاولون تدمير بيوت القرية وكل من يخرج من بيته حيا يجد ارهابيي الارغون وشتيرن له بالمرصاد فيقتلوه.
وفي وقت صلاة الظهر كان الرجال يؤدون الصلاة في المنزل جماعة عندما سمعنا صوت الاليات الصهيونية تقف امام منزلنا ، جمعونا قبل انسحابهم مع من بقي حيا وصفوا الرجال والشيوخ والنساء امام الجدران وقتلوا الجميع ولم ينج سوى الاطفال الذين اختبأوا وراء اهلهم.
بكت قريبتي وقالت:
- كنا انا واختي طفلتين وكان الرصاص مزق اجساد اهلنا، قتلوا امي وابي وجدي وجدتي واعمامي وعماتي وعددا من اولادهم.
وقالت:
- رأيت يهوديا يطلق رصاصة فتصيب زوجة عمي الحامل، ثم شق بطنها بسكين وقتلوا جنينها.
كنا اكثر من عشرة اطفال ، الناجون الوحيدون من المذبحة ، حملنا الصليب الاحمر واخرجونا من قريتنا بعد ذلك افترقنا انا واختي انا تزوجت في الاردن واختي تزوجت في لبنان وتقيم في مخيم شاتيلا.
خلال السنوات التي تلت عودتي من المقبرة الى المخيم، كنت اراقب الزوجة قريبتي ، اكثر من مرة كنت ا فتح باب غرفتنا، اصبح لنا غرفة منفصلة عن غرفة الزوجين، افتح الباب وانظر باستمرار من شقه الصغير علّي ارى قريبتي تغادر فراش زوجها الى المرحاض، لكنها لم تفعل، كنت اتمنى ان لا ارى شيئا.
**
-26-
كانت شقيقتها مثل القطط بسبع ارواح
هذا ما اخبرتنا عندما حضرت الى المخيم مع طفلها.
نجت هذه المرة ايضا من المذبحة لكنها كانت هي وطفلها الصغير الناجين الوحيدين من العائلة، لم يعد لها احد في لبنان بعدما دمر المخيم ودفن عائلتها من الشهداء في قبور جماعية ..
دخلت المخيم مع طفلها وبكت على كتف شقيقتها حتى ظننت ان دما ينزف مع دموع عينيها. جلسنا انا والشقيقتان وقلنا للشقيقة اللبنانية:
- ماذا حصل بالضبط؟
تنهدت بشدة، ورأيت عينيها تتحرك كأنما تستعيد المشهد مرة اخرى وقالت:
-كنا جميعا في منزلنا بعد ان ترك الكثيرون الجهة الغربية للمخيم هربا من القصف الشديد، جاءت فتاة نعرفها من جهة الحرش مضرجة بدمائها تصرخ:
-في مذبحة.. اللبنانين عم يذبحونا.
لم يصدقها احد، وبدأ زوجي يصرخ بها:
- ماهذا الذي تقولينه؟ هل تريدين تخويف الاولاد، عيب ما تفعلينه؟
ونقلها الى مستشفى غزة لتلقي العلاج وعاد الى المنزل الذي كنا متواجدين فيه.
لم نكن نترك بيوتنا التي اعدنا ترتيبها وبناءها ،كنا قد يئسنا التهجير . عندما اشتد القصف توجهنا الى منزل والد زوجي في الجهة الشرقية من المخيم، اختبأنا في غرفة واحدة ارضية بعد ان تجمع في المنزل عمي واولاده وبعض الجيران، كان عشية الخميس، كنا مطمئنين بداية ولم يخطر ببالنا ابدا انها مجزرة منتصف الليل، كنا نسمع انينا وصراخا فتوجهت شقيقة زوجي لترى الامر ، ثم سمعنا طلقة ومن ثم صوت شقيقة زوجي:
- الحقني يا أبوي.
خرج عمي وراءها فحصل نفس الشيء طلقة فصرخة ، عندها عرفنا انها مجزرة، صمت الجميع ، كنا نسمع اصوات اقدامهم على سطح الدار ونسمعهم ينادون بعضهم الياس وجوزيف، ما زلت اذكر هذين الاسمين، بقينا طوال الليل نصلي وفي الخامسة من صباح الجمعة صحي ابن شقيق زوجي الطفل وبدأ بالصراخ، سمعه المجرمون فنزلوا علينا من السطح ، كان زوجي يحمل ابني هذا في حضنه حين دخلوا علينا، طلبوا من الرجال الاصطفاف على الحائط في الصالون ورفع ايديهم، اعطاني زوجي طفلي وقال:
- الاولاد امانة في عنقك ، اعتني بهم وبنفسك.
طلبوا منا النظر اليهم واطلقوا عليهم الرصاص ومن ثم ضربوهم على رؤوسهم كي يتأكدوا من موتهم، انتبه احدهم الى الاولاد والنساء الاخريات وقال:
-هل نقتل الاخرين.
اشار احدهم اليّ وقال:
-اقتلوا الجميع باستثناء هذه وطفلها.
قتلوا ابناءي وجيمع النساء والاطفال، وساقوني وطفلي الى المدينة ، خرجت من الباب ودعست على جثة والد زوجي ومن ثم شقيقته ، كانوا يضربون الجثث بالبلطات .
حين وصلنا مقرهم كانوا يأكلون فواكه مطبوعا عليها ملصقات عبرية وبيره ومياه اسرائيلية.
سكتت او اسكتها الدمع.
قالت لها اختها:
-يكفي. يكفي يا اختي انك تعذبين نفسك.
قالت:
- اقتادني احدهم الى غرفة ثانية واغتصبني ثم سلمني لاخر وفعل فعلته وظلوا يغتصبونني حتى الظهيرة ثم تركوني مع ابني، تركوني اهرب، اجر جسدي جرا، توجهت الى الكولا ومنها الى الظريف وبعد اسابيع قررت ان التجئ اليكم وان كنت ازيدكم هما.
اسكتها بيدي وقلت لها:
-لا تتحدثي امام احد عن امر اغتصابك، انسيه، اجعليه امرا لم يحدث، الاغتصاب يعني لعنة تطاردك للابد، لا تخبري احدا بهذا الامر ارجوك، ارجوك لا تتحدثي بعد اليوم عن اغتصابك.
-لكنه ليس بيدي، انه غصب عني.
- لا احد يفهم هذه اللغة.
رأيتهم يغتصبون امي في مخيم جنين ،ورايتهم يغتصبون طفلة في مقبرة مازالت دماء الدورة الشهرية تبلل ملابسها.
**
-27-
عندما دخلت صفي في مدرسة الوكالة بعد عودتي للمخيم من المقبرة، رأيت في عيون معلمة التاريخ كرها خاصا بي لا ادري من اين اتى لها، لكنها كانت تكرهني بدون مقدمات او نهايات.
عندما دخلت معلمة التاريخ الصف وكنت اجلس في المقعد الخلفي ، كان المقعد الوحيد الذي تجلس فيه ثلاث فتيات وكنت رابعتهن، اغلقت باب الصف خلفها وقالت بصوت قادم من اعماق حروب المغول:
- اين البنت الهاربة؟ اين الفتاة التي تركت الملجأ وهربت.
لا ادري اهو التحدي ام الخوف، لكني وقفت وقلت لها:
- انا،
نظرت اليّ بكره ، اقسم انه كره.
قالت:
- المدارس بتعلم الاخلاق، الاخلاق وبس، هل فهمت؟
لم اجبها ، وتناسيت وجودها في الصف، معلنة لقلبي انني اول طالبة في الصف احبت ساكن قبر، بل في كل العالم بعد الامهات مفتخرة بعشقي المميز الذي ميزني عن الاخرين.
كان العشق بلغ بي للقبر الخامس وساكنه مبلغا تعدى العشق والهيام لدرجة انني كنت لا اشعر بالاخرين سواء كان في مدرسة الوكالة او في البيت ، ودربت نفسي على تجاهل من لا يحبني بأن اعود بذاكرتي الى القبر الخامس متناسيا أي اساءة او نظرة في غير محلها ، ولا ادري اهو عشق بمعنى العشق والغرام ام عشق اخوي لاني كنت افتقد منذ ان عرفت الدنيا صرختي كنت افتقد الاخ والشقيق الذي اشاكسه واعانده و يحميني من نظرات اولاد الحارة ، ايام كنا نسكن في حارة.
هي حالة لم اشعر بها من قبل ولم يشعرها من قبل احد من اهل المقابر، فقد اخذ شكل القبر الخامس الجميل بحجارته المتواضعة والمتراصة كأسنان المشط وجبلية التراب المرصوص على شكل جبل كالورد والياسمين، اصبح القبر الخامس عشقي لان من فيه اصبح يطرز احلامي ليلا، ويغزو خيالي العذب المعذب نهارا، لم اعد اطيق التسكع في شوارع عمان والتسول، اقنع بالقليل واعود مسرعة الى القبر الخامس مشتاقة له تدفعني قدماي دفعا، لم اكن اعبأ باصوات الرصاص ومكبرات الصوت التي تذيع البيانات والخطابات.
اصبحت قليلة الطعام والكلام، اعد طيور السماء بعد ان غادرني الطائران الجميلان اللذان كانا يسكنان اشجار المقبرة، لكني كنت وانا اسير في شوارع عمان متسولة اعد الطيور الكثيرة الهادلة فوق الاشجار الكثيرة ، فعمان مليئة بالاشجار والطيور.
وعندما كنت اقترب من باب المقبرة تتصلب عيناي باتجاه القبر الخامس علّ وعسى ان يكون خرج من القبر الخامس ساكنه وجلس بانتطاري وانتظار عودتي هياما بي وعشقا لي وخوفا عليّ، كنت ارى خياله دون معالم في خلواتي التي كانت تطول وتطول وانا اجلس عند رأسه اتابع اصوات صراصير الليل واعد النمل الذي يسير من مكان ما في المقبرة لم احاول معرفة مكان مستعمرته خوفا عليها مني، كان النمل يسير بخط مستقيم قاطعا عددا من القبور باتجاه مكان ما في المقبرة ويمر من فوق القبر ا لخامس دون ان يضل او يتوه ولم احاول ان اغير طريقه او اتجاهه.
كنت اعشق شبحا او قبرا لا ادري ماذا اعشق لكني كنت اشعر ان طيفا ما يراقبني في ليلي دون ان يحاول او يفكر بمس جسدي الذي لو طال بقاؤه في المقبرة لايام اخرى كان تعفن من شدة الروائح الكريهة التي كانت تحيط بي.
كنت كالمجنونة في منتصف الليل لا ادري ما افعل لكني كنت اظن نفسي اني حالة نادرة الوجود فتاة في اول سن عمرها تعشق قبرا ومكان التقاءهما هو المقبرة .
كنت اشعر وانا اجلس في المقعد الاخير من صفي في مدرسة الوكالة بالمخيم اني مميزة حتى وان كرهتني معلمة التاريخ سأبقى انسانة مميزة.
مضت الايام ومعلمة التاريخ تكرهني، ترفض ان تغير نظرتها لي، كنت احاول جاهدة اثبات براءتي لكنها كانت مصرة على اني فتاة هاربة فقط.
كرهتها جدا حد الموت.
وكرهت كل تاريخ الحضارات والامم منذ الخليقة الاولى وحتى دمار المخيم، شعرت انها حرب صليبية، او حرب عالمية ثالثة او رابعة او خامسة، كانت نظراتها لي مريبة تدفعني بداية معرفتي بها لضربها او قتلها او اقل شيء الهروب من المخيم والعودة الى المقبرة، كانت المقبرة ارضا آمنة لولا الرجلان.
دخلت يوما وتحدثت للصف عن اليهود، كنا بنات مدارس المخيم احيانا لا نستمع لبعض الدروس لكن عندما يأتي الكلام عن فلسطين او اليهود فنصبح كلنا اصغاء واذانا لمعرفة كل شيء.
تحدثت عن خبثهم وحقدهم منذ ان اصبحوا يهودا يمتهنون القتل والكذب والخراب، شعرت بالحنين لها، لمعلمة التاريخ.
لا ادري لماذا وجدت نفسي مقبلة عليهاغير مدبرة ككل المرات ا لسابقة، شعرت بنفسي تدفعني لاحضانها.
قالت( بينما السيد المسيح عليه السلام مسافرا التقى رجلا يهوديا وقال السيد المسيح لليهودي:
-اترافقني؟
وافق اليهودي طمعا، وكان مع السيد المسيح عليه السلام ثلاثة ارغفة وسارا حتى دخلا بليل ناما فيه، نام المسيح مطمئنا لكن ا ليهودي اكل احد الارغفة دون اذن من رفيقه.
وفي الصباح سأل المسيح اليهودي:
-هل انت من اكل الرغيف؟
فقال ا ليهودي منكرا:
-لا ، لم اكل الرغيف.
ثم سارا ، وفيا الطريق اعترضهما نهر فأرادا اجتيازه، قال المسيح:
-سأمشي على النهر وتضع خطواتك على خطواتي.
واجتازا النهر مشيا على اقدامهم.
فقال المسيح: اسألك بالذي امشانا على النهر من اكل الرغيف؟
قال اليهودي:لا ادري.
ثم اكملوا طريقهم ، حتى اذا حلت ساعة الغداء اصطادوا غزالا واكلوه فلما شبعوا نادى المسيح على العظام وقال قم باذن الله)
فتجمعت العظام وقام الغزال وركض باذن الله فقال المسيح:
-اسألك بالذي اطعمنا الغزال ثم احياه بعد ما اماته، من اكل الغزال؟
قال اليهودي: لا ادري.
وفي ا لطريق وجدوا ثلاثة اكياس من التراب فقال المسيح:
- كوني ذهبا باذن الله.
ثم قال لليهودي:
-كيس من الذهب لي وكيس لك وكيس لمن اكل الرغيف.
فقال اليهودي:
- انا اكلت الرغيف.
فاعطاه المسيح عليه السلام كل الذهب وتركه. وبعد فترة التقى اليهودي باثنين من اليهود ورأى اليهوديان ما معه من الذهب فارادا ان يحصلوا عليه واتفقا على قتله، وطمع هو بما معهم من ذهب وتأمرا على ان يبعثاه ليجلب لهم طعاما وعندما يحضر يقتلاه، واضمر هو لهما في صدره ان يضع السم في طعامهما وعندما حضر واعطاهما الطعام المسموم قاما بقتله ثم اكلا من الطعام فماتوا جميعا.
ومر بهم السيد المسيح عليه السلام فقال:
-جزاء من اقتتل على الدنيا.
ازددت تعلقا بمعلمة التاريخ وزاد في نفسي الاصرار على تغير ما بنفسها. وكانت حياتي منذ معلمة التاريخ الاولى في مخيم جنين مرورا بقتل والديّ والملجأ والهروب والمقبرة علمتني الصبر وعدم استعجال الامور، وقبول التحدي ، فلا شئ اخاف ان اخسره بعد ان خسرت كل شيء.
لكني لن استدر عطفها، ولن اخبرها بامري، لكنها ستحترمني يوما ما.
وكنت رأيتها اليوم في عرسنا لم تفارقني حتى لحظة فراق الناس لنا، منذ ثلاثة ايام وهي بجانبي ، لكنها لا تعرف عني الا ما كانت تعرفه قبل هذه الليلة.
كانت اخر المودعين وقالت لي:
-اذا شعرت انك بحاجة الى ام فانا امك.. لا تترددي.
-28-
بعد ان اكملت الصف الثالث الاعدادي ، انهيته بتفوق وكنت الاولى على صفي في مدرسة الوكالة، اردت من خلال الدراسة ان اعوض اياما عشتها بلا طفولة، وفي المدرسة عادت اليّ طفولتي، رجعت الي نفسي وشيئا فشيئا وبمساعدة اقربائي رجعت الي طفولتي.
عدت مسرعة الى البيت بعد ان قضيت ساعتين في المقبرة ، زرت خلالها كل القبور التي اعرفها والتي جاءت بعد رحيلي، كنت كل مرة اذهب فيها الى المقبرة واعود متأخرة توبخني قريبتي خوفا علي.
جلست عند القبر الخامس الذي سكنه ميت اخر لم يكن مكتوبا اسم الميت ، كان على ما يبدو مجهول الهوية وفقير الحال عرفت ذلك من دفنه في قبر مفتوح وفي باب المقبرة.
نظفت بعض القبور من الاعشاب الضارة المتيبسة وازلت الاشواك عنها.
عندما كنت اعود الى المخيم كانت قريبتي توبخني وتقول لي:
- الدنيا ما فيها امان.
لا احد يعرف عني شيئا .
في ذاك اليوم عدت واذا بقريبتي تسحبني من يدي الى الداخل، خفت من قسوتها في هذا اليوم لاني تأخرت كثيرا، لكنها كانت لطيفة هذه المرة وقالت:
_ الم اقل لك ان لا تتأخري.. نحن نخاف عليك.
لم تصدق اذناي ما تسمع، احست قريبتي باستغراب عيوني. قالت:
- انا يا ابنتي عندما اقسو عليك من اجلك ومن اجل مصلحتك. نحن نخاف عليك مثل بناتنا.
صمتت ولم اتكلم، كنت متأكدة ان ذهابي بين الحين والاخر الى المقبرة يعتبر خطأ كبيرا لكني غير قادرة على التخلص من زيارتها.
قالت قريبتي:
- اسمعي يا ابنتي كل بنت ولا بد من يوم تتزوج فيه، وانت بتعرفي ابن حارتنا الميكانيكي، اليوم جاءتنا امه لخطبتك.
دموعي احيانا كثيرة لا تستأذنني بالنزول من عيوني، وهذه المرة لم تستأذني دمعتي التي وصلت الى شفتي بالنزول.
عندما رأت قريبتي دموعي ضمتني الى صدرها وقالت:
- لا تفكري انا نرميك، احنا بدنا مصلحتك، والرأي رأيك واحنا مستعدين نفديك بعيونا، انت واحدة من اولادنا.
تمنيت ان اتزوج، لكن هل سيصدق احد اني بريئة، واذا اكتشفوا امري الى من التجئ والى اين اذهب، وماذا سيحل بالعائلة التي اعتبرتني ابنتها. لكني سأرفض كل عروض الزواج بحجة دراستي وسأتفوق بمدرستي حتى ادخل الجامعة واعيل نفسي.
قلت لقريبتي :
- انك امي وامري بيدك ، لكني اريد ان اكمل دراستي ، وانت ترين انني من المتفوقات في المدرسة ارجوك..
ضمتني بشدة ثم وضعت يديها على كتفي ومسحت دمعتي وقالت:
- ان شاء الله بتكوني من المتفوقات.
هذه الحادثة ، خطبتي من جارنا الميكانيكي، جعلتني اصر على اكمال دراستي وظل امر زواجي اذا فشلت في المدرسة الحل الوحيد امام عائلتي هو الذي يدفعني دفعا نحو التفوق حتى اللحظة التي تخرجت فيها من كلية الطب .
انت الوحيد الذي اخبره من تلقاء نفسي وليس من دفع ذاكرتي ، اخبرك وحدك في هذه الدنيا لانك وحدك من كان بين الاحياء املي.
**
-29-
دخلت صباح امس الاول، قبل زواجنا بايام الى شقيقة قريبتي واذا بها تحضن طفلها وتبكي، رأيت في عينيها سوادا مليئا بالحزن.
اعتذرت منها لاني سأتزوج ولم يمض على مذبحة صبرا وشاتيلا السنة الواحدة.
قالت: ليس لهذا الامر ابكي..
قلت لها:
- اذا لم البكاء ونحن مقدمون على فرح؟ هل كتب علينا الحزن الابدي والبكاء المستمر.
- انا فرحانة اكثر منك.. احببتك اكثر من ابني الذي يبلغ من العمر ست سنوات.
-اذا لم البكاء.
تنهدت بحسرة وتزامن مع تنهيداتها دمعة.
نظرت الى طفلها البالغ من العمر ستة اعوام، لكنه رجل ، هكذا نحن وهذا ما تعلمناه من الشتات ان نصبح رجالا ونحن في الاحضان نرضع الحليب من اثداء امهاتنا، ونصبح نساء قبل بلوغ الدورة الشهرية.
طلبت من طفلها الخروج فعلمت ان الامر يخصه .
قالت:
- هل للاطفال ذاكرة قوية؟
اقوى ما في الطفل ذاكرته، وذاكرت الطفل تحفظ الاساءة فقط.
قلت لها:
- نعم، ذاكرتهم قوية، لماذا تسألين.
- سالني طفلي قبل قليل عن..
سكتت. لم احاول توقع عن ماذا سألها طفلها. فالاطفال يسألون دائما واسئلتهم دائما تكون غريبة وقد لا يكون لها اجابة، لكن ما هذا السؤال الذي ابكاها في ايام زواجي وهي بالفعل كانت صديقتي اكثر منها قريبتي.
- لماذا صمت؟ عن ماذا سألك.
حركت عينيها بحركة دائرية كمن يبحث عن ذكريات مضت في ذاكرته . قالت:
- سألني عن حادثة اغتصابي في صبرا وشاتيلا.
- ماذا، عن اغتصابك؟ وهل رأهم وهم..
- لا، لكنه سالني بطريقة غير مباشرة.. سألني لماذا ادخلني الرجل الى الغرفة المجاورة ولماذا كان يدخل رجل اخر بعد ان يخرج الرجل الاول ولماذا لم يدخلوه معي ولماذا خرجت من الغرفة خلف الرجل الرابع وانا ابكي كثيرا.؟
سكتت عن الكلام، وسكت انا عن التنفس.
نظرت اليّ كأنما تطلب مني تفسيرا ، لكني بقيت صامتة.
قالت:
- كانت اسئلته كمن يعاتب انسانا ارتكب خطأ ويحاسبه، كان يعاتبني ويلومني بأسئلته.
- انه طفل وغير مدرك لاي شيء.
لم تقتنع. حاولت اخراجها من حزنها بأي طريقة لكنها ظلت تبكي.
في هذه اللحظة تحركت ذاكرتي الملعونة، حثتني على ان اخبرها بالمصاب الذي اصابني في المقبرة من الرجلين المسلحين لكي اواسيها، لكني رفضت، اصرت على ان اخبرها لان رؤية مصائب الاخرين تخفف علينا مصائبنا، كدت ان اقع في فخ ذاكرتي ، عاطفتي تغلبت للحظات على قلبي ، لكن في هذا الاثناء التي كانت ذاكرتي توشك ان تصرع قلبي تدخل عقلي لصالح قلبي وانهى الامر. وساعدني في ذلك دخول شقيقتها تدعونا لفنجان قهوة.
**
-32-
في ليلة حنائي نظرت في الوجوه النسائية المجتمعة والجالسة امامي ، كانت وجوه نساء المخيم تشع منها الفرحة حقا او زورا ، المهم انها كانت افراحا، نظرت في وجوه نساء المخيم الموجودات لفرحي وتفريحي كان هناك وجه غائب عن هذه الامسية ، وجه لايجوز له ان يغيب لان وجوده اهم من العروس نفسها، مع ان الغرفة الصغيرة كانت تضم اغلب نساء المخيم الا اني لم اجد وجه امي.
اين هو وجه امي ؟انا لا اعرفه.
اريد وجه امي ، اريد امي في ليلة حنائي وفي يوم زفافي.
كل بنت تجد امها قربها في مثل هذه الليلة ، توصيها في ليلة زفافها وتعلمها كيف تصبح امرأة وزوجه صالحة، دائما الام اخر من يتكلم مع العروس لان كل ام يكون حلمها هذه الليلة .
انا اريد وجه امي ودموعي تطلب دمع امي لتودعني، اريد وجه امي ليرى منظر شعري الطويل الذي ما زال يطول ومازلت ادهن بزيت الزيتون ، حتى وانا طالبة في كلية الطب واضبت على دهنه بزيت الزيتون اكراما لوجه امي الي كانت تعشق شعري الطويل.
شعري الطويل الذي كانت تحبه وتضربني اذا لم احافظ عليه ، شعري الذي دفعت الكثير من اجل ان احافظ عليه ولم اسمح للمسؤولة في دار ايواء الايتام ان تقصه.
اريد وجه امي في هذه الليلة ،لكن وجهها غائب حتى اني لا أعرفه ولم أره حتى في أحلامي.

-31-
عندما صاح الديك المجاور لمقبرة ليلى معلنا يوما جديدا، وبدأ الفجر يطارد الليل متآمرا مع الشمس من أجل النهار ، وبدت القبور تظهر بشكل حي.
- حكايتك عجيبة وغريبة، عشت طفولة مدمّرة وحياة مليئة بالعتمات، لكنك تستحقين الاحترام كل الاحترام على شجاعتك وعصاميتك . انهضي لكي ارسلك الى المخيم.. جئت متأخرة.. متأخرة جدا ولم تأتي فجأة .
- بامكانك العودة الى الحارة القبلية ، الحارة القبلية اصبحت جزءا من كياني مع اني لم ازرها كثيرا ، كنت اتمنى ان اكون منها من ابنائها. بأمكانك العودة الى الحارة القبلية.. سأذهب الى المخيم وحدي.
- لكنك بثياب العرس، سأوصلك بسيارتي.
ابتسمت ، صرت عيونها ، كان هناك دمعة حرى لكنها لم تنزل.
- سأذهب لوحدي.. احضرت معي عباءة سوداء وغطاء رأس.. علمت اني سأعود وحدي.
النهاية
الرمثا في 10/ 11/2002م الساعة 8.55 يوم الاحد مساء الخامس من رمضان.

HaKoNa MaTaTa


 
 توقيع : دلوع

حكمه (( ليس صديقك من تضحك معه ويضحك معك , صديقك من يخدمك وتخدمه ))







HaKoNa MaTaTa


رد مع اقتباس
 
 
 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

(عرض الكل الاعضاء الذين شاهدو هذا الموضوع: 5
, , , ,

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:16 PM.


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd. TranZ By Almuhajir
HêĽм √ 3.2 OPS BY: ! ωαнαм ! © 2010