عاشوراء : البعد العقدي
* بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده . أما بعد : ففي كل عام تطيف بنا هذه الذكرى السنوية العريقة التي خلد القرآن ذكرها، وفخم أمرها، في غير ما موضع، وثبَّت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الذكرى بصيام يومه، واحتفى به؛ فعَنْ الرُّبَيِّعِ بِنْتِ مُعَوِّذٍ قَالَتْ : أَرْسَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ عَاشُورَاءَ إِلَى قُرَى الْأَنْصَارِ: ( مَنْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا فَلْيُتِمَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فَليَصُمْ ) قَالَتْ فَكُنَّا نَصُومُهُ بَعْدُ، وَنُصَوِّمُ صِبْيَانَنَا، وَنَجْعَلُ لَهُمْ اللُّعْبَةَ مِنْ الْعِهْنِ، فَإِذَا بَكَى أَحَدُهُمْ عَلَى الطَّعَامِ أَعْطَيْنَاهُ ذَاكَ حَتَّى يَكُونَ عِنْدَ الْإِفْطَارِ . متفق عليه . ولعظيم شأن هذا اليوم كان صومه فرضاً، بادئ الأمر، ثم نسخت فرضيته بصيام رمضان، وبقيت سنيته؛ فعن جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُنَا بِصِيَامِ يَوْمِ عَاشُورَاءَ، وَيَحُثُّنَا عَلَيْهِ، وَيَتَعَاهَدُنَا عِنْدَهُ. فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ، لَمْ يَأْمُرْنَا، وَلَمْ يَنْهَنَا، وَلَمْ يَتَعَاهَدْنَا عِنْدَهُ ) رواه مسلم . ويظهر أن شرف هذا اليوم يرجع إلى أكثر من سبب : أحدها : أن صيامه من بقية ملة إبراهيم . ولهذا كانت قريش، وأهل الجاهلية يصومونه، ويعظمونه، ووافقهم النبي صلى الله عليه وسلم في العهد المكي ؛ فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ ) رواه البخاري . الثاني : لكونه من أيام الله المشهودة ! لما روى ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : (قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، فَرَأَى الْيَهُودَ تَصُومُ يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ: (مَا هَذَا؟) قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى. قَالَ: ( فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ) رواه البخاري . وفي رواية : ( فَصَامَ مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ فَقَالَ أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى مِنْهُمْ فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ ) لا يملك صاحب قلم، مهما بلغ من البيان، أن يصور المشهد الهائل الذي تمت به هذه الآية العظيمة، كما صوره القرآن : ( فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ. وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ .وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ.ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ. إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ )الشعراء: 6-67
وأمام هذا المشهد المهيب تتداعى العديد من المعاني الإيمانية، والأبعاد العقدية :
أولاً : الآية الباهرة الدالة على ربوبية الله تعالى، وخلقه، وملكه، وتدبيره، لجميع الأشياء: فهو الذي وضع ناموس الكون، وهو القادر على إبطاله، حسب ما تقتضيه مشيئته، وحكمته . فهذا البحر الخضم، والأمواج المتلاطمة، تستحيل إلى جبال مائية شاهقة، مكونةً اثني عشر طريقاً، بعدد أسباط بني إسرائيل، يهبط في قعرها، ويمشي على ثراها المستضعفون، لينفذوا إلى الجانب المقابل ! وامتلاء القلب بهذه العقيدة يورثه طمأنينةً، وثقةً، وتوكلاً، لا تدانيه أي قوة معنوية أخرى . ثانياً : صدق وعد الله لعباده المؤمنين : إن هم آمنوا به، وتوكلوا عليه، وصبروا على الابتلاء. فالله لا يخلف الميعاد، ولا يخذل أولياءه، ولا يديل عليهم عدوهم، ما داموا مستمسكين بحبله، واثقين بنصره ، كما جرى لموسى عليه السلام: (فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ . قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) الشعراء : 90 وتلك قاعدة مطردة، وسنة ربانية، قال تعالى : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) غافر: 51، وقال (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)يوسف: 110. وبهذا لهج لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم الفتح، فقال : (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ صَدَقَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ) رواه أبو داود، وقال في حجة الوداع وهو على الصفا، مثنياً على ربه : (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ) رواه مسلم . ثالثاً : عاقبة الطغيان، وشؤم البغي والعدوان : فهاهو فرعون الذي كان يتيه بنفسه قائلاً : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) النازعات : 24، (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) القصص : 38، نراه يتخبط في لجج البحر، ويشرق بمائه : (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ . آَلْآَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ . فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آَيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آَيَاتِنَا لَغَافِلُونَ ) يونس : 90-92 . فأهلكه الله بألطف الأشياء، وهو الماء الذي كان يتباها بأنه يجري من تحته ! ما أحوج كل ظالم، متكبر، جبار، أن يتبصر في مصارع الغابرين، ويعتبر بخاتمة المعتدين. وما أحوج كل مظلوم، مضطهد، مسكين، أن يثق بكمال عدل الله، وأنه يمهل للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته، بل يأخذه أخذ عزيز، مقتدر . رابعاً : تعظيم حرمات الله، وأيامه، وآياته : فالقلب اليقظ، والنفس المطمئنة، تعظم ما عظم الله، وتقدم ما قدم الله، وتنفعل لما فخَّم الله ، كما فعل نبينا صلى الله عليه وسلم . عن ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : (مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَرَّى صِيَامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا هَذَا الْيَوْمَ، يَوْمَ عَاشُورَاءَ. رواه البخاري. وقال : ( صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ) رواه مسلم . هكذا يحتفي أهل الإيمان الصادق بشعائر الله، شكراً، وتعظيماً، وصوماً . بخلاف المطموسين من أهل البدع والأهواء الذين أفسدوا هذه المناسبة العظيمة، فأحالوها إلى لطمٍ، وشتمٍ، وضرب قامات، ونواح، وعويل، يشوه الدين، ويشين العقيدة . وسبحان الله ! قد علم كل أناس مشربهم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
* / قسم العقيدة - كلية الشريعة وأصول الدين - جامعة القصيم
10/1/1429