اتعجبون من دقة ساقيه
عن عبدالله بن مسعودرضي الله عنه أنه كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين،فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله - -: (مم تضحكون؟) ، قالوا: يا نبي اللهمن دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) ، رواهأحمد.
وفي رواية أخرى: " فنظر أصحابه إلى حموشة ساقيه فضحكوا، فقال النبي - - : (ما يُضحككم ؟ لَرِجْل عبد الله في الميزان أثقل من أُحُد) رواهالطبراني.
معاني المفردات
يجتني سواكاً: يقطف السواك
الأراك: من شجر البوادي ويُصنع منهاالسواك
تكفؤه: أي تحرّكه يميناً وشمالاً
حموشة ساقيه: دقّةالساقين
تفاصيل الموقف
كان معدوم المال ولكن غني النفس، وضئيل الجسد ولكن ذائع الصيت، ومستور المكانة ومغمور الجاه، فأبدله الله بذلك كلّه شرفاً وعزّاً، وعلماً وعملاً، ومحبة في قلوب الناس،ومنزلة في نفوس المتقين.
إنه الصحابي الجليل عبدالله بن مسعودالهذلي رضي الله عنه، صاحب رسول الله - - في حلّه وترحاله، وأوّل من صدح بالقرآن الكريم على رؤوس الملأ بمكّة وناله من ذلك أذىً كثيراً، وهو الذي قام بالإجهاز على أبي جهل يوم بدروحمل رأسه إلى المسلمين ليُبشّرهم بمقتل عدوّهم.
وفضائل هذا الصحابي الجليل وخصاله أكثر من أن تُعدّ وتُحصى، بيد أنها انضوت كلّها داخل جسدٍ صغير ذي قامةٍ نحيلة لم تزل موضع عجبٍ وتساؤل، واستغراب وتندّر، وكانت له في ذلك قصّة!.
تروي لنا كتب السير أنابن أم عبد-كما كان النبي يلقّبه- اشتهى عوداً من أراك ليُطهّر به فمه، فيجتمع له نقاءالظاهر وصفاء الباطن، خصوصاً أثناء قراءته لكتاب ربّه آناء الليل وأطرافالنهار.
والحصول على الأراك كان يتطلّب بطبيعة الحال صعوداً فوق الشجرةحتى يتخيّر الأنسب والأفضل، فكان أن ارتقى رضي الله عنه الشجرة مستعيناً بساقيه الدقيقتين ويديه الضعيفتين، وبينما هو كذلك إذ هاجت الريح واشتدّ هبوبها حتى كادت أن تسقطه من العلو، وظلّ الجو العاصف يلعب به يمنةً ويسرة.
وشاهد من كان حاضراً من الصحابةابن مسعودرضي الله عنه وهو على تلك الحال، فتضاحك بعض القوم من منظره، ولم يستحسن رسول الله – - ضحكهم على أخيهم، فسألهم: (مم تضحكون؟) ، فذكروا له دقّة ساقيه رضي الله عنه.
ولكن هل يُقاس الناس بأشكالهم وألوانهم؟! وهل يضرّعبدالله رضي الله عنه ضعفه ونحوله؟!! لا والله؛ فإن لصاحب تلك الساقين فضائل تُثقل الميزان، وأعمالاً تُقرّالعين، ومزايا تُبهر الألباب، جامعاً في ذلك بين جمال السيرة ونقاءالسريرة.
ويشهد لتلك المنزلة العالية خير الخلق – - ويُسطّرها في سجلاّت الخالدين: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد) .
إضاءات حول الموقف
يُذكر العلماء هذا الحديث ضمن فضائل عبدالله بن مسعودرضي الله عنه، والتي تُجمع إلى مناقبه الأخرى، كقول رسول الله – - : (خذوا القرآن من أربعة:...وذكر منهم عبد الله بن مسعود) متفق عليه، وقوله عليه الصلاة والسلام : (من أحب أن يقرأ القرآن غضّاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد) رواه ابن ماجةوأحمدفي مسنده، وطلب النبي عليه الصلاة والسلام منه أن يقرأ عليه القرآن ليسمعه منه، بل أذن له أن يدخل عليه بيته في أي وقت شاء، وأن يستمع إلى أسراره حتى ينهاه عن ذلك، كما جاء في سنن ابن ماجة.
وفيمايتعلّق بالقصّة، فإن فحواها هو التنبيه على أن الميزان الحقيقي عند الله لا يكون بالصور ولا المناظر، ولكن بالجوهر والعمل، يقول رسول الله – -: (إن الله لا ينظر إلى أجسادكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم) متفق عليه، وقبل ذلك يقول الله في كتابه: { والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون} ( الأعراف:8-9) وهذا هو الوزن الحق والعدل.
وفي القصّة بعدٌ عقدي، نصّ عليه كثيرٌ من علماء أهل السنة والجماعة، وهو إثبات أن الميزان كما يكون للأعمال يوم القيامة، فإنه يكون كذلك لصاحب العمل، استدلالاً بهذه القصّة، وبحديث النبي – - : ( إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يومالقيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة قال واقرءوا إن شتم: { فلانقيم لهم يوم القيامة وزنا } ( الكهف : 105) ) متفق عليه.
مما راقني